في خضم الحياة، يتنقل المرء بين حل وارتحال، فمرات في بلده ومرة يسافر، وخاصة في السنوات الأخيرة التي كثر فيها الابتعاث والسياحة والسفر التجاري، فيحل بديار غير دياره، ويرى وجوها جديدة لم يألفها، وقد يسافر اختياراً او اضطراراً، وقد يسارع في ذلك وقد يتباطأ؛ وكلّ حسب ظروفه. لكن المرء عندما يترحل ويحل بديار غريبة ويرى وجوها جديدة؛ فهو ما بين الاندماج التام أو الاستقلال والتباعد عن الناس! دعونا هنا نذكر معالم التعامل في الغربة؛ التي يحسن بكل مغترب أن يقوم بها، ليجني خير ديارهم ويقي نفسه الأخطار. من ذلك؛ الدعاء وطلب العون من الله تعالى، وكذلك التعرف والسؤال، بحيث يتجه لأمكنة مصادر الحياة كالبيع والشراء والسقيا وتجمع الناس فلا يكنُّ في الأطراف النائية، وليتحلَّ بالمبادرة والتفاعل ولا ينتظر خدمة الناس له كالمتسول، كما عليه الحرص على طاعة الله والسير على أنظمة البلد الحقة، وانتهاز الفرص المناسبة لاستثمار وجوده بما ينفعه. هذه المعالم في ديار الغربة عمل بها موسى - عليه السلام - لمّا توجه لأهل مدين خارجاً من مصر؛ فتوجه أولاً لله تعالى: ((قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل))، ثم توجه لأماكن تجمع الناس ومصادر حياتهم ورزقهم: ((ولما ورد ماء مدين))، ثم بدأ يتأمل القوم ونظامهم ويسأل: ((ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهما امرأتين تذودان قال ما خطبكما؟))، فكان مبادراً ومتفاعلاً: ((فسقى لهما ثم تولى إلى الظل))، وبعدما طلب الأب منه العمل مقابل تزويجه ابنته وخيره بين الأجلين 8 سنين أو 10 اهتبل الفرصة فوافق على الخيار الأعلى، فقضى 10 سنين كاملة ثم رحل راجعاً لبلاده.. إن رحلة موسى - عليه السلام - ما بين الوصول إلى الرحيل تبلغ عقداً كاملاً، بدأت بالخوف والغربة وقلة الأهل والمال؛ فعمل بهذه الآداب العظيمة الجليلة، وهي معلم لكل مغترب و"مبتعث" ليبقى موصولاً بربه، حافظاً لنفسه من الأخطار، مبادراً، متفاعلاً، يرى الناس خيره فيأمنونه، ويمنحونه، فيحيا معهم بخير ويبني معهم الحياة.. إن من سافر باحثاً عن الخير وهو يعيشه بقلبه فسيجده، ومن سافر وقلبه خال من ذلك فسيظل تائهاً؛ ومن لم يشعل القنديل في قلبه كيف يرى النور فيمن حوله؟ ومن لم يعود أنفه شم الروائح الزكية فلن يفرق بين أنواع الأطياب! ومن تأمل أخلاق موسى - عليه السلام - التي ظهرت في غربته فسيعجب كيف كانت المكافأة من المخلوق والخالق؛ لقد خرج خائفاً مترقباً، ثم بعد سنوات أصبح متزوجاً ونبياً رسولاً - عليه الصلاة والسلام -.