كشفت أولى الطلعات الجوية الروسية زيف الادعاء، وبهتان الدعوى، بضرورة التدخل في سورية لمواجهة الإرهاب، الذي أطلقه من قمقمه - بشكل فعلي - نظام بشار الأسد ومن لف لفه، حين قصفوا الشعب السوري، الساعي إلى الحرية والكرامة، بالبراميل المتفجرة، وأوغلوا طعناتهم في ظهر الوطن السوري. خطاب موسكو المتهافت، الداعي إلى محاربة الجماعات الإرهابية في سورية والعراق، كشف جوهر الإستراتيجية الروسية، أو ما يمكن وصفه ب "انتهازية بوتين"، الرئيس الذي حلم ب "دكتاتورية السوفييت"، بعد تآكلها ذاتياً وسقوطها المدوي دونما أسف من الشعب الروسي، ولم يفلح في تحقيق "الحلم الجريمة"، فسعى إليه عبر سورية. "الغزو الروسي"، كما يليق تسميته ب "الاحتلال الروسي"، هو محاولة "يائسة" لاستعادة "مجد مزعوم"، تحقيقاً ل "غاية آثمة"، لفظتها المنطقة منذ عقود، واستحضرت الشعوب ما يناهضها ويناهض الداعين إليها بسعيها إلى "حريتها" من "طغاة" أفسدوا الحجر والبشر، وليس نظام الأسد في سوريا إلا واحدا منها، استدعى طغيانه الخروج عليه طلباً للخلاص منه، وأملاً بغد محبور. أولى الخطوات أولى الخطوات الروسية كشف حقيقة الغزو، وغاياته بالنسبة لموسكو، فصواريخ الطائرات لم تذهب نحو ما "أتفق" على وصفه بالإرهاب، بل صبت جام غضبها على الطوق المحيط بنظام الأسد في آخر معاقلة، التي لا تشكل من مساحة سوريا سوى 17%، إذ استهدفت الثوار ومخازن أسلحتهم، من دون أن يصيب أيا من هذه الصواريخ الأهداف المعلنة للغزو، وفق ما أفادت به وسائل الإعلام نقلاً عن الثوار في الميدان. كلمات بوتين، في الأممالمتحدة، التي سعت إلى حث الدول المشاركة على محاربة الإرهاب، وتشكيل جبهة عالمية لهذه الغاية، لم تجد صدى لها في العمليات العسكرية، التي بدا واضحاً أنها تستهدف غايتين اثنتين: الأولى: دعم ما تبقى من نظام بشار الأسد، وإلحاقه بالتبعية إلى روسيا، بما يحفظ لها مصالحها الإستراتيجية في موطئ قدم على شواطئ المتوسط، وبما يحول دون تهديد عوائدها من إنتاج الغاز الطبيعي، الذي اكتشف منه كميات ضخمة على طول الساحل المتوسطي. الثانية: إنقاذ ماء وجه إيران، وحليفها حزب الله، اللذين مُرّغت أنوفهم في الوحل السوري، وباتا على شفا التخلي عن نظام الأسد، الأمر الذي تجلى في تسويات الهدنة المؤقتة التي أعلن عنها أخيراً. لا شك في أن "الغزو الروسي" لم يأت من فراغ، بل من دراسة معمقة أجرتها دوائر صنع القرار في موسكو، وفق المحلل السياسي والكاتب راكان السعايدة. يقول السعايدة، ل "اليوم"، أعتقد أن دخول روسيا، بشكل مباشر وفعّال، على الخط العملياتي العسكري في سوريا، "خطوة مدروسة"، و"ليست عبثية، أو ارتجالية". ويضيف السعايدة "موسكو تخوض هذه المعركة بعد تقييم تجربتي الولاياتالمتحدةالأمريكية في العراقوأفغانستان، وكذلك تجربة روسيا ذاتها في أفغانستان ولاحقاً في أوكرانيا (القرم)". "أفغنة" سوريا بيد أن السعايدة يتوقف بتحفظ عند اعتبار سورياأفغانستان جديدة لروسيا، وهو ما يخالف ما ذهبت إليه المتخصصة والخبيرة الجيو- استراتيجية د. إلهام العلان، التي ترى أن "الأفغنة أكثر السيناريوهات واقعية بعد الغزو الروسي". تقول د.العلان، التي استطلعتها "اليوم"، إن "التدخل الروسي في الصراع الدائر بسوريا جاء بعد الإخفاق المدوي الذي منيت به قوات الحرس الثوري الإيراني ومقاتلو حزب الله اللبناني، اللذين عجزا عن الحد من فرص انهيار نظام الأسد، فيما حافظت الجماعات المعارضة على زخمها الميداني وفعلها الثوري". وتشير العلان إلى أن "الاندفاعة الروسية في سوريا، لملء الفراغ المتشكل عن تقهقر وضعف نظام الأسد وإخفاق حلفائه في إحداث تغيير ذي معنى ميدانياً، جاءت معززة بإرث طويل من العلاقة مع نظام الأسد الأب، أخذ عدة أبعاد من التعاون العسكري بين البلدين، ولكن هذا الإرث لن يشفع لروسيا أمام الشعب السوري، الذي يعيش الموت بأسلحة النظام في كل لحظة". ولا تستبعد العلان أن "يتحول الروس إلى نقطة استهداف للثوار، كما هو الحال مع قوات الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله اللبناني، خاصة أن موسكو فضحت غاياتها منذ لحظة القصف الأولى، وأحالت معارضي نظام بشار الأسد إلى أعداء مفترضين ومستهدفين بصواريخها". غزو جوي.. وبري حديث د.العلان يفتح الباب أمام استفهام أساسي، هل سيكتفي الروس بالهجمات الجوية؟، أم سيخوضون قتالاً برياً إلى جانب قوات الأسد وحلفائه الإيرانيين والصفويين؟. ويجيب السعايدة على استفهام الغزو البري بالقول: إن "تأكيدات روسيا بأنها ستكتفي بتنفيذ عمليات جوية ليست حقيقية تماماً، فمسألة القوة البرية قد تأتي لاحقاً". ويضيف: "أظن أن العمليات الجوية يراد لها أن تفتح الطريق للعمل العسكري البري في الوقت المناسب، وبعد أن تكون القوى الإقليمية والدولية المناوئة للتدخل الروسي استوعبت الغزو الروسي، وتقبلت النطاق الحالي". غايات موسكو نظام الأسد سعى على مدى أشهر في إعادة تعريف المأزق الذي يعيشه نظامه، في محاولة لتضليل الرأي العام العالمي، فالثورة الشعبية، التي بدأت سلمية تماماً، واجهها بآلة القتل السورية، حتى أضحى الدفاع عن النفس والأهل واجب مقدس، ليعود الأسد من النافذة ويملأ الأرجاء صراخ بأنه وقواته يحاربون الإرهاب الأعمى، متجاهلاً تماماً أن "الإرهاب صنيعة أجهزته الاستخبارية وحلفاؤه، وأنه وليد العنف الدموي". هنا، ينفي السعايدة أن تكون غايات موسكو من الغزو محاربة تنظيم داعش، فالرئيس الروسي أصر على استخدام كلمة إرهاب في حديثه بالأممالمتحدة، دون أن يحدد بشكل دقيق ما يقصه بهذه الكلمة ومن يقصد، فيما كشفت أولى الغارات الجوية الروسية أن الإرهاب أو الإرهابيين هم "كل من ناصب نظام الأسد العداء". ويضيف السعايدة: إن "فهم التحرك الروسي رهن بمعرفة غايات موسكو، وما إذا كان التدخل البري ضرورة لتحقيقها أم لا". ولكن، ما هي غايات الغزو الروسي؟، يجيب السعايدة أن "لدى موسكو قائمة من المصالح، التي ستسعى إلى تحققها أو الحفاظ عليها"، وهي: أولاً: تأمين الدعم لنظام بشار الأسد ليواصل الصمود أطول فترة ممكنة في مواجهة مناوئيه. ثانياً: إخضاع الساحل السوري للمظلة العسكرية الروسية، لحماية قاعدتها الوحيدة في المنطقة، وفي المياه الدافئة، وبما يضمن ألا يمر خط الغاز القطري أو الإيراني إلى أوروبا عبر البحر المتوسط. رابعاً: التواجد على الأرض لتحسين موقع روسيا التفاوضي حال دخول البلاد مرحلة التسوية السياسية، لضمان مصالح موسكو بشكل أقوى. خامساً: عرقلة المشروع التركي الهادف إقامة مناطق آمنة أو عازلة في شمال سورية. سادساً: في حال غياب أفق الحل السياسي، والتوجه نحو تقسيم سوريا، ضمان المنطقة الحيوية السورية بالنسبة لروسيا وتأمينها. سابعاً: محاربة تنظيم "داعش" باعتباره يشكل أحد الأخطار التي تحيط روسيا، نظرا لوجود آلاف الروس والشيشان والقوقاز في سورياوالعراق، وكذلك إعلان التنظيم ولاية في القوقاز، رغم أن اعلانات موسكو في هذا الشأن ليست صحيحة بكليتها، لأنها تريد استهداف كل المعارضة للنظام السوري تحت ذريعة "داعش". أطماع روسية تغليف موسكو لمصالحها وأطماعها بقيم أخلاقية، كمحاربة الإرهاب، باتت مكشوفة، ولن يتوقف عندها طويلاً أطراف المعارضة السورية، فهم يدركون أن "الدب الروسي" تحرك مدفوعا بمطامعه وأحلامه، التي أفاق عليها من بعد سباته الطويل، وليس بوارده مصلحة الشعب السوري ومستقبله الوطني. وفي هذا السياق، ترى الباحثة المتخصصة في الصراعات ميسون برهومة، التي استطلعتها "اليوم"، أن "روسيا ستكون عامل تأزيم وتأجيج للصراع الدائر، وليست جزءاً من الحل". وتفسر برهومة ما ذهبت إليه بالقول، إن "انحياز روسيا لصالح النظام، وتدخلها عسكرياً لنصرته، سيؤدي إلى إطالة أمد الصراع، وبالتبعية إطالة عمر نظام الأسد الغير مقبول محلياً وإقليمياً ودولياً، ما يحيله إلى صراع أكثر تعقيداً". وترى برهومة أن "روسيا ذات أطماع بدور ما في المنطقة، وعلى المستوى الدولي، يحقق لها النفوذ والهيمنة، وهو ما يتعارض ويتقاطع مع مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي لا شك أن لديها أجندة خاصة بها، ولن تضحي بتفردها بسهولة". غير أن السعايدة يتوقف عند ما أسماه "مأزق" أميركا وأوروبا، ويرى أن "الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي يعيشان تردداً وانكفاء، وهو ما انتهزته روسيا في تحركها الأخير". ويضيف: "الولاياتالمتحدة ليست بوارد الصدام العسكري، وهو ما تدركه موسكو جيداً، لهذا سعت إلى ملء الفراغ في الصراع الدائر في سورية، لخلق أمر واقع سيكون له أثره في التفاهمات الروسية – الأمريكية المتوقعة". توريط أم تورّط؟ "التردد الأمريكي حيال ملفات المنطقة، وتسوية الملف النووي الإيراني، دفعتا واشنطن إلى التعامل مع الصراع السوري من بوابة المفاوضات، ودون التدخل مباشرة في الصراع"، تقول الباحثة المتخصصة في الصراعات ميسون برهومة، وتضيف: "هذا النهج ساهم في توالد الجماعات المقاتلة داخل سوريا، وخلق تعددية من نوع خاص". وترى برهومة أن "خصوصية الحالة السورية تجعل من الغزو الروسي توريطاً لموسكو، التي تعزف عن التضحية باختبار قوتها على نطاق كلي، ما يضعها في موقع لا تحسد عليه". وتتفق د. إلهام علان مع ذلك، وتضيف: "لا شك أن التردد الأمريكي ينطوي على توريط لروسيا في سورية، التي لن تخرج منها سوى بخسائر كبيرة، ودون مكاسب تذكر، وهو ما أدركته واشنطن مبكراً، وجعلها تكتفي بدعم بعض الجماعات لوجستياً، وتبين لاحقاً أن من دعمتهم استلقوا في حضن جبهة النصرة". روسيا الطائفية الدور الروسي يشي بالكثير، فتدشين المركز الاستخباري الرباعي في بغداد، الذي تشارك فيه روسياوإيرانوالعراق ونظام الأسد، يفضح طبيعة المهمة الروسية الجديدة في المنطقة، يقول الكاتب والمحلل السياسي محمد قبيلات، ويضيف: "المهمة الجديدة تؤذن ببدء حقبة وشكل جديدين من الصراع والاقتتال، فروسيا تحت مسمى محاربة داعش تقوم بتأسيس جيش طائفي، عماده أعضاء الميلشيات الشيعية العراقية والسورية وعناصر من جيش القدسالإيراني، فضلاً عن عناصر حزب الله، ويعمد هذا الحلف الطائفي بالدم السوري". ويرى القبيلات، أن "قاعدة تحالفات روسيا ميدانياً تعكس انحيازها الطائفي في مواجهة السنة، ما يكرس القناعة بالطبيعة الطائفية لمستقبل الصراع في سوريا". ويذهب القبيلات إلى القول: إن "روسيا تمتلك الخبرة في حرق المدن، لكن ليس لديها الخبرة الكافية في حرب المدن؛ ما استدعى إسناد نظام الأسد بالخبراء والأسلحة وبتشكيلٍ يمتلك العقيدة القتالية التي تضمن الإخلاص بالقتال، وليس أقرب من هكذا تشكيل طائفي؛ ليتصدّى لهذه المهمة وأهدافها". في الأسابيع الأخيرة، وجدت المعارضة السورية المسلحة نفسها بلا ظهير في معركتها الشرسة مع الأسد وحلفائه، فيما يشكل التدخل الروسي ضغطاً كبيراً عليها، وبالتزامن مع هذا أوقفت أطراف داعمة لها غرفة العمليات المشتركة في عمّان وانسحبت من المشهد تحت ذرائع متعددة، ما يجعل هذه المعارضة أمام خيار وحيد، تحدث عنه زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في تسجيل بُث أخيراً. الظواهري، رغم تمسكه بالخلاف مع تنظيم"داعش"، دعا إلى وحدة بين المقاتلين في مواجهة التحالف الدولي، وهي الدعوة التي رآها مراقبون مقدمة لصيغة من "تعاون الضرورة"، الكافي ل "استمرار الزخم الميداني للجماعات الجهادية أو المتشددة"، وهو ما لم يؤخذ بالحسبان أردنياً وإقليمياً. استحضار إسرائيل موسكو أبلغت تل أبيب بنيتها تنفيذ طلعات جوية، وهو ما أكدته وسائل الإعلام الإسرائيلية، الأمر الذي فهم على أنه إشراك لإسرائيل في حماية نظام الأسد. وفي هذا، يقول القبيلات: "الأسد وحلفاؤه غازلوا إسرائيل، التي من المؤكد لن تخرج من هذه الحفلة إلا بالهدايا النفيسة، وليس من مشكلة في ذلك، فلا يضير النظام السوري أن ينسلخ من آخر ما يتستر به على عريّه من مقاومة وممانعة، ويقدمه لها على سبيل عربون الصداقة". وتتفق برهومة مع ذلك، وتضيف: "مسعى روسيا لإعادة صياغة دورها الإقليمي والدولي لا بد أن يمر عبر البوابة الإسرائيلية، التي تقف على تفاصيل المشهد السوري".