الحج يخلق تمازجا روحيا على مستويات عدة دينية وتاريخية وأدبية وسيظل حضوره العميق قائما كمؤثر ايماني قوي في كيان ومخيلة الشعراء وعواطفهم ليطلقوا العنان لفنونهم وإبداعاتهم وأفكارهم وتصوراتهم، فهو حالة روحية استثنائية تبعث الأعمال الأدبية من منابت الألم والأمل والحزن والبهجة في أعماق شاعر أو قاص أو سارد لتفصيلات التجربة فهناك صور أشبه ما تكون بلوحة يرسمها كل شاعر لرحلة من رحلات الحج عبر العصور الأدبية بدءا بعصر صدر الإسلام وحتى العصر الحديث. "الجسر الثقافي" رصد لرؤى بعض المبدعين حول حضور موسم الحج في تجارب الشعراء فكانت تلك الآراء: تجربة استثنائية يبتدر الحديث الشاعر عبدالله الزيد قائلا: الحج قديما كان حدثا أسطوريا بكل ما تعني الكلمة بدءاً من النية والاستعداد والتهيؤ، ومرورا بالسفر الطويل ومعاناته والوصول إلى الديار المقدسة وأداء النسك وانتهاءً برحلة العودة التي لا تختلف في همها وأهوالها عن رحلة الذهاب. إنها رحلة روحية يحفها الخوف والألم منذ أن تنسكب دموع الفراق والوداع مع مواجع الأحزان وتعب الطريق، ومواجهة السقم والمرض وربما الموت والفقدان. من هنا نستطيع أن نستحضر كيف يكون الحج ومقدماته وأشهره موسما لتجارب مؤثرة لدى الشعراء والروائيين ولدى كتاب السير والرحلات. كان هناك أحداث وتحولات وعوالم يمكن أن ترقى إلى مستوى كتابة القصيدة والرواية والقصة وأدب الأسفار والمشاهدات. مضيفًا بقوله: "أما الآن فماذا يعني موسم الحج للناس بعامة وللفنانين والشعراء والكتاب بخاصة؟. إنه موسم يمر بالزمان والمكان والإنسان ولا يحمل معاناة مثل تلك التي تحملها الأوائل ومن بعدهم. وحتى الذي يحج يذهب ويؤدي مناسكه ويعود دون أن تشكل لديه المسألة تجربة تحظى بالرسم والإفصاح والتدوين والكتابة لسبب غاية في السهولة وهو أن المناسبة كلها لا تتجاوز الأيام الأربعة، وإن طالت فهي لا تتجاوز أسبوعا أو عشرة أيام ليس فيها من المعاناة ما يشكل دافعا لكتابة نص أو تسجيل أثر أدبي سوي الجانب الروحي. خيالاتهم الشعرية الشاعر والأكاديمي احمد نبوي أكد أنَّ فريضة الحج أمدَّتِ الأدباء بفيضٍ من النجوى وأوحت إليهم بصورٍ ومشاهِدَ ساميَةٍ تثيرُ لواعجَ النفسِ قائلا: "سجل المؤرخون الرحلات الحجازية التي كان يقوم بها الأندلسيون والمغاربة وصور شعراؤهم شوقهم وحنينهم وتغنيهم بأسماء الأماكن المقدسة ابتداء بالكعبة ومقام إبراهيم وزمزم والصفا والمروة والمشاعر المقدسة، ومن أروع ما كتب في تصوير مناسك الحج وإظهار الجو الروحاني الذي يحيط بالحجيج قول أمير الشعراء أحمد شوقي: إلى عرفات الله يا خير زائر عليك سلام الله في عرفات ففي الكعبة الغراء ركن مرحب بكعبة قصاد وركن عفاة على كل أفق بالحجاز ملائك ترف، تحايا الله والبركات إلى آخر القصيدة التي يعدد فيها فضائل الحج والسكينة التي تعم الحجيج، ويتابع النبوي "ومن الشعراء من أخذه الشوق وسيطر عليه الهيام بهذا المكان المبارك فما كان منه إلا الصياح بصوت عال كما فعل الشاعر علي أحمد باكثير قائلا: خذوني خذوني إلى المسجد خذوني إلى الحجر الأسود خذوني إلى زمزم علها تبرد من جوفي الموقد. وحتى بعد أن يمن الله عليهم بإتمام الحج وهم في طريق عودتهم لبلادهم لم يتركها الشاعر دون تصوير وكأنه إذ ذاك أراد أن يظهر الراحة النفسية والطمأنينة التي أصبح عليها الحاج وكأنه صار واثقا بأن الله تعالى غفر له ذنوبه وكفر عنه سيئاته. عقيده راسخة بدوره أوضح الشاعر عبدالوهاب الفارس اثر موسم الحج في نفوس الشعراء بقوله: "لا يخفى على أحد أن الحج لم يكن شعيرة إسلامية فقط بل وعقيدة راسخة في قلوب وأذهان العرب كافة وبتاريخ موغل في القدم منذ بناء إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام للكعبة، ويكفي أن نذكر سوق عكاظ وكيف كان الشعراء يستميتون لتعلق أشعارهم في جوف الكعبة لنعرف رفعة مقام هذا الموسم في أعينهم أما على المستوى الوجداني الفني فإن ما يترتب على هذا الحج من السفر، وتجشم العناء والمخاطر، ووداع الأحباب ومن ثم اللقاء بهم من ناحية، واكتساب خبرات ومعارف، وممارسة شعائر روحانية ذات رموز ودلالات تاريخية واجتماعية وإنسانية، واختزان كل ذلك في ذكريات تخلد في النفس من ناحية أخرى. كان لكل ذلك الأثر الكبير في مخاييل الشعراء وعواطفهم وثقافتهم ليطلقوا العنان لفنونهم وإبداعاتهم وأفكارهم وتصوراتهم. صورة إيمانية الناقد خالد الغامدي يستشهد بصور يقتنصها الشعراء خلال رحلتهم إلى البقاع المقدسة، قائلا: "يزخر الشعر قديما وحديثا ببحر من المشاعر والخيالات التي تدفقت من قلوب مئات الشعراء صوروا بها حبهم لمكة ولمشاعر الله وشوقهم إليها ودموعهم الطاهرة حين رأوا الكعبة المشرفة وحين وقفوا بعرفة وحين غادروا في نصوص كثيرة توثق حالة شعرية راقية من "الحب المقدس" الذي نجده في شعر الصوفية في أرقى حالاته الفنية، وذلك كما في قصيدة البرعي الشهيرة التي طالما تغنى بها حجاج اليمن قديما في مسيرهم على الدواب والأقدام إلى بيت الله الحرام: من نال من عرفات نظرة ساعةٍ نال السرور ونال كل مرادِ تالله ما أحلى المبيت على منى في ليل عيدٍ أبرك الأعيادِ وقيل إن البرعي هذا مات في رحلته للحج قبل وصوله مكة رحمه الله. ويتابع الغامدي: "ومن المنظومات الشهيرة في هذا ميمية ابن القيم التي يقول فيها عن مشهد عرفة: فلله ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظمُ ونجد مشهد الدموع يتكرر كثيرا في أساليب مختلفة، فهذا علي باكثير يسكبها على باب الكعبة: خذوني لأستار بيت الإلهِ أشدّ به في ابتهالٍ يدي دعوني أحط على بابه ثقال الدموع وأستنفد وذاك بدوي الجبل يسفحها بين الحطيم وزمزم ويا مهجتي بين الحطيم وزمزمٍ تركت دموعي شافعا لذنوبي وتنحو نازك الملائكة وجهة فارضيّة خيّاميّة تقول فيها على مذاهب أهل العشق الإلهي : أحسست وجه الله إغماءةً أغيب فيها ويغيب الزحامْ صليتُ ناجيت سَرَتْ رعشةٌ في أدمعي في شفتي في العظامْ ويضيف: لعل قصيدة بيرم التونسي التي غنتها السيدة أم كلثوم (القلب يعشق كل جميل) هي أرقى ما بلغه خطاب العشق الإلهي في الأدب المعاصر على المستوى العامّي، ذلك النص الذي تكامل فيه الإبداع كلمة ولحنا وغناء حتى لا يكاد المستمع يملك معه دموعه حينما يسمع السيدة تغني: ولما تجلّى لي بالدمع ناجيته كنت ابتعد عنه وكان يناديني.