إنه الهروب من الموت إلى الموت، هروب إلى المجهول في بحر شديد الأهوال، يفرون بأجسادهم المنهكة، يدفعون كل ما لديهم من مال إن كان لديهم مال إلى مهربين محتالين لا يضمنون لهم شيئا، وفي قوارب مطاطية يتدافع المئات وفي مراكب مهترئة تتلاصق الآلاف من الأجساد، ويعرف أولئك المهربون أن قواربهم ومراكبهم معرضة للغرق في أي لحظة وحين لا تغرق فهم يعلمون أنها ستصادر حين يتم القبض عليهم في عرض البحر أو على سواحل القارة الأوروبية ولذا فهم يستخدمون المراكب الرديئة الرخيصة ثم يتركون الأمور للحظ ونسبة ضئيلة جداً للنجاة. ما الذي يدعو أهلنا وأشقاءنا من المهاجرين السوريين إلى أن يتخذوا هذا القرار بالفرار من بلدهم بأقصى سرعة وبأقرب فرصة وبأي ثمن؟ ولماذا يتدفق الآلاف منهم إلى أوروبا وبنفس الطريقة التي يرون فيها جثث الآلاف من المهاجرين الذين غرقوا وجرفتهم أمواج البحر إلى السواحل؟ لماذا كل هذا الإصرار والتصميم على خوض هذه المغامرة الخطيرة المميتة؟ إلى متى وهذا التدفق الهائل وهم يشاهدون ما جرى ويجري للمهاجرين من ضرب وتهجير واعتقال وسجن ومنع وإغلاق ومساومة وتهديد وإذلال وتنكيل؟. تنقل الأنباء في مشهد مؤثر جداً وبين قضبان سكة القطار ذلك المهاجر السوري وهو يضرب رأسه بيديه في حالة عصبية هستيرية وبالقرب منه زوجته وطفلهما الصغير الذي تضمه إلى صدرها، الشرطة المجرية تجذب ذلك الشاب بقوة وهو متشبث بزوجته وطفله، يتجمع عليه عدد من الجنود فيسحبونه بعد تكتيفه فلا يجد من طريقة يتمسك بها بزوجته إلا أن يعض على كمها بأسنانه يجذبونه بقوة مرة أخرى وسط صراخ ونحيب وبكاء ثم يرمونه في القطار إلى حيث مراكز الاعتقال فينظر من وراء النافذة بعينين زائغتين لزوجته وطفله اللذين ربما لن يراهما ولا هما يريانه مرة أخرى. أما لماذا يهاجر أهلنا من سوريا بأقصى سرعة وفي أقرب فرصة وبأي ثمن فهي نتيجة لأرض متفجرة محروقة وسماء متجهمة ترميهم ببراميل الموت صباح مساء وهواء مشبع بالسموم الكيماوية في مأساة لا نكاد نرى لها مثيلاً في العصر الحديث مات فيها مئات الآلاف وهجر فيها الملايين ومن بقي فهو ينتظر الموت قتلاً أو جوعاً أو حرقاً أو تسميماً، في هذه اللحظات الفارقة تصبح الهجرة خياراً استثنائياً واضطرارياً منطقياً حتى وإن كانت نسبة النجاة والحياة ضئيلة جداً أمام مصير حتمي للموت في بلد عاثوا وسعوا فيه فساداً فأهلكوا الحرث والنسل وأصبحت مدنه وقراه مأوى للأشباح وأضحت أنهاره وبساتينه وجناته أثراً بعد عين. ووسط عاصفة المهاجرين وما يديره الإعلام من ضجيج وصخب يتسمر مئات الملايين حول العالم أمام صورة الطفل السوري إيلان كردي بجسده الغض المسجى على رمال الساحل تلك الصورة التي حركت الضمير العالمي المتخاذل والمتآمر والمساهم في هذه المأساة المروعة، هذا الطفل الذي سيبقى شاهداً على هذا العصر المادي المتوحش الذي ترك أهله هذه الحرب الغادرة تنهش جوعاً وفقراً وتشريداً وضياعاً وسحلاً لشعب انطفأت فيه شعلة الحياة ليختار بطوعه واختياره الموت على الأمواج المتلاطمة العاتية. ومن نجا فوطئت قدماه يابس القارة العجوز يبدأ في أهوال وفواجع لم تخطر له على بال إذ تنسكب عليهم سيول الصدمات المسكونة بالقهر والعذاب فيجبرون على البصمة الإلكترونية ومن يأبى يدخل في تحقيقات ومصائب لها أول وليس لها آخر، هناك يهرب اللاجئون من أيدي الجلادين إلى حيث الدول الأكثر رفقاً وإنسانية فيمشون جماعات وأفراداً في كآبة وحزن واضطراب ووجل وخوف. أيها المشاؤون إن سقطتم من ذاكرتنا وذاكرة العالم فلن تسقطوا من ذاكرة التاريخ الذي سيعيد نفسه يوماً ما ولن يرحم وقتها كل متخاذل أو متآمر.