أذكر نقاشا حضرته وأنا في مرحلة الدكتوراه بين عالمين قديرين، كلاهما قد جاوز السابعين من عمره، قال أحدهما إن الطالب الجيد هو الذي يخرج أفضل ما لدى الأستاذ، وأننا في جامعاتنا نفتقر إلى الطلاب الجادين الأذكياء. فلم يعد طلاب اليوم كالأمس.. وبدأ يسرد شكواه من جيل اليوم. استدرك الآخر وقال إنه يرى الأمر على العكس من ذلك، فحين يظهر الأستاذ الجيد يظهر التلامذة الأذكياء. قال له إن الأساتذة دائما يرددون هذه العبارات إما للتخلص من مسؤولياتهم أو ربما للتحفيز إن أحسنا الظن. لكن الواقع أن الأمر كله مرهون بيد المعلم، وإنهم في الواقع يفرّون من مسؤولياتهم. في يوم الخميس الماضي قدّم مركز الملك عبدالعزيز الثقافي نسخته الثالثة من مسابقة (اقرأ). حضرت عروض العام الماضي وحرصت أن أكون حاضرا هذه السنة، شيء مذهل ما يحدث هناك على المسرح من الشباب الذكور والإناث، نصوص تصيبك بالدهشة أمام أعمار كتابها، أولئك الشباب من المرحلة المتوسطة والثانوية والجامعية. إجادة وإبداع في العرض. إن من حقنا كلنا أن نفخر بهذه المبادراة وهذا النجاح. حين ألقى مدير البرامج في المركز كلمته قال إن وراء هذه الليلة عشرات الملهمين والإداريين والمتطوعين. إنه جهد اجتمعت فيه العقول والإرادة.. وبذل استمر ستة أشهر حتى توجت بعشرة متسابقين على المسرح تلك الليلة. حين توجد البرامج الذكية والمبادرات الحقيقية، والتطبيق الجاد والعمل الدؤوب.. يخرج القارئ الذكي. مما أبدعت فيه هذه المسابقة أيضا تقديمها لفيلمين في السنتين الأولى والثانية من المسابقة، وفي هذه السنة قدم المخرج السعودي بدر الحمود إضافة لفيلميه السابقين فيلما قصيرا عن ألبرتو مانغويل. والحقيقة أن ما قاله مانغويل كان أكثر الأفكار تأثيرا بي تلك الليلة، وأعتقد أنني ما أزال أقع تحت تأثيرها. كان يتحدث عن مكتبته التي رغم ضخامتها فإن الكتب تتمدد في كل جانب من البيت، إنك لا تدري ما الذي يحدث في المكتبة لكنك فجأة تجد أن الكتب لا تكتفي بالرفوف، ولا تقبل بالنظام الصارم الذي وضعته لها حين اشتريت أرففا للمكتبة وهيأت لها مكانا خاصا. إنها لا تعرف السكون.. فجأة أصبحت كتبه تحت درج البيت وفي غرفة الضيوف. يقول مانغويل إنه يعتقد أن سيخرج يوما إلى الحديقة حيث لن يتبقى له مكان في البيت، لكن الكتب لن تكتفي، ستتمدد وتحتل الحديقة ايضا.. إنها معضلة لا حلّ لها فيما يبدو. بدت الفكرة بالنسبة لي مثيرة جدا، فإنني إضافة إلى ذلك أجدها تتمدد بشكل فردي، إنها لا تلبث أن تتحرك بكل اتجاه.. بشكل افقي فوق الكتب القائمة على الرف.. ثم على الأرض.. ثم تتمدد خارج الغرفة.. في غرفة المعيشة.. على الطاولات الصغيرة وفوق طاولة الطعام.. وفجأة تجدها في المطبخ.. وفي غرفة النوم.. إنها كائنات شهوانية لا تكتفي ولا تشبع. وفي الواقع، فإنه قد بث في الكتب الحياة ومنحها الذات والإرادة.. إنها تفكر وترغب وتشتهي وتتقدم.. وهي مشاغبة وشجاعة.. لقد بث فيها مانغويل الحياة وكفى.. فلم أعد أراها في البيت إلا كذلك.. لقد استطاع في هذا الفيلم الذي لم يتجاوز الدقائق الأربع أن يرمي فكرته الشيطانية في رأسي. للمرة الثانية تشيد المسابقة وهذه المرة على لسان أ. أمين الناصر رئيس شركة ارامكو المكلّف بمنطقة تبوك والمعلمة ريم الجوفي والأستاذة نجلاء الشامان، حيث تقدم أكبر عدد من المشاركين من منطقة تبوك لسنتين على التوالي، كما أن الفائز بلقب (قارئ العام) عن فئة التعليم العام هي شروق شخشير من تبوك.. حسنا.. ما زلنا نقول إنه حين يظهر المعلم الجيد يظهر الطلاب الأذكياء والنجباء. أعلن أ.أمين الناصر عن مبادرة جديدة، وهي تدشين أسبوع وطني للقراءة يستهدف خمسين ألف مشارك وزائر، في مكتبة مركز الملك عبدالعزيز الثقافي. وفي ظني أن هذه المبادرة ستكون حدثا مدهشا آخر يضاف لإنجازات المركز. إن وطننا مليء بالشباب ذوي الطاقات الهائلة والرغبات الثقافية الحقيقية والمتعددة. إنهم بحاجة إلى مبادرات حقيقية وصادقة ومصممة بإتقان واحتراف. وحين توجد هذه المبادرات سيخرج الأذكياء من كل مكان.