تنتمي الأسطورة لعصور سابقة مفارقة لنا في الزمن والثقافة، بل بعض تلك العصور منقطعة عنا ثقافيا كحضارة بابل وحتى حضارة دلمون الممتدة على طول ساحل الخليج، تتحدث تلك الاساطير عن بداية الخلق وصراع الآلهة وتسبح بك في خيال أدبي ومضمون عميق من الصعب العثور عليه في ظل منظومة فكرية مختلفة. من المهم جدا أن نلاحظ أن المنطق والفلسفة اليونانية انقلبت تماما على الأسطورة وقللت من شأنها، وأشارت إليها بإصبع التصغير في نظام وأسلوب التفكير.. ولذلك فنحن لا نملك قراءة للأسطورة تنتمي للمنظومة الثقافية ذاتها، وربما كان هذا فوق قدرتنا، لأننا ننتمي إلى منظومة عقلية مختلفة وننتمي أيضا إلى نموذج ديني مغاير، بل وأدوات مختلفة تماما في التعبير عن أفكارنا، ويكفي في ذلك أن الاساطير تنتمي لأمم شفهية بينما ننتمي نحن لأمم كاتبة. يرى العقل البشري نفسه يمضي نحو التقدم دائما، لذلك يرى أن ما مضى كان طفوليا لم ينضج بعد، وأن اللاحق دائما هو الأرشد والأنضج، ويعتقد دائما بأن المستقبل واعد من الناحية الفكرية العقلية، ومع كل تلك الادعاءات باحترام الثقافات إلا أنه ما زال يحاكم السابق بناء على ما توصل إليه في هذه اللحظة المحددة من التاريخ. وأتحدث هنا عن العقل الغربي والعربي على اختلاف الهموم والأسئلة المطروحة في قراءة التاريخ، فهو في الحالتين يحاكم التاريخ بأسئلة وهموم ومنجزات العصر الحديث، بل يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى جلد الذات والقسوة على الهوية التاريخية. يشار إلى الأسطورة بأنها تمثل (طفولة العقل البشري)، ولا أدري إلى أي حد تصح هذه العبارة، إنها تطلق في سياق تفسير الأمم والثقافات السابقة المنتجة للأساطير للحياة والطبيعة والوجود، نعتقد أنهم حين رووا الأسطورة وفق ثقافتهم الشفهية فإنهم قصدوا أن يقدموا تفسيرا منطقيا وعلميا للكون، لذلك نظن أنهم فعلا قصدوا ذلك، وأنهم يؤمنون في اعتقادهم بما تضمنته هذه الأساطير عن الوجود. ولذلك نجد أن كثيرا من هذه الأساطير تنقل اليوم بعد أن فرغت من قالبها اللغوي والأدبي والسحري، فتروى في كلمات مجردة فنقرأ أن البابليين كانوا يعتقدون أن بدء الخلق تم بكذا وكذا. ويتم في كثير من الأحيان التندر بالمعلومات المتضمنة فيها، ويتعجب الإنسان الحديث من تلك السذاجة في تفسير الكون، وهو بالطبع يقيس ذلك إلى منجزات مختبره العصري، وقوانينه الفيزيائية واكتشافاته الضخمة. حين تمتلك رؤية تجاه العالم، وكلنا كذلك سواء أكنا على وعي بذلك أم لا، وحين ترغب في التعبير عنها، فإن الاتجاهات الفلسفية تتوسل بالكلام المركب، فكرة تتلوها فكرة وتنتج عنها فكرة، إنها تسرد لك هذه الرؤية عبر تجريد الأفكار. لكن ماذا لو حاولت أن تختصر هذه الرؤية المعقدة والمتشابكة في حكاية، وماذا لو تحررت من قيود الواقع، لتجعل الأرض والحيوانات تنطق، وجعلت الجمادات تتزاوج وتلد.. ثم تتصارع وتندم وتعاقب.. ماذا لو كثفت كل تلك الرؤية الوجودية التي نتفلسف حولها اليوم في هذه الحكاية، إنك لا تخلق القصة لأنك مؤمن بها كحدث ووقائع، ولكنك تخلق الرموز من أجل أن تحكي رؤيتك لهذا الكون، بعيدا عن ما حدث بالفعل. وليس على الأمم التي روت الأساطير وزر قارئ جاء من حضارة مختلفة وحاكمها بالوقائع المروية فيها، وتهكم بذلك العقل الطفولي.. كيف تريد ممن لا يفهم سوى لغة الأرقام أن يدرك سحر الكلمات؟! هل بالإمكان أن نعيد مجددا إنتاج الأسطورة، ليس بوصفها حقائق وإنما بوصفها عملا فنيا وجوديا؟ في رواية انقطاعات الموت أزعم أن من بين أغراض ساراماغو إعادة تشكيل الأسطورة، وهو واضح من إشارته الدائمة في الرواية للأساطير القديمة، وهي لعبة تأويلية من أجل أن يستحضر القارئ ولو طرفا من ذلك الخيال، وفي مواضع كثيرة يتجاوز ساراماغو الحاجز مع القارئ ليطلعه على تقنيات الراوي. فهو يقر بأن الموت ليس جسدا وأنه موجود في كل مكان وكل لحظة، لذلك من الصعب أن يتجسد وأن ينطق في مكان واحد، لكن لضرورات فنية فإنه يتوسل بالشكل القديم المتخيل للموت، تلك المرأة في هيكل عظمي تحمل في يدها المنجل وتلتحف بالكفن، يفعل ذلك حتى يستنطقها ويملؤها بالمشاعر والأحاسيس، بمعنى آخر إنه يؤنسن الموت من أجل أن يمرر فلسفته تجاهها، لكنه من أجل عقل القارئ المعاصر الذي قد لا يستسيغ هذا الفعل فإنه يضطر إلى الاعتذار عن فعله أثناء الرواية. الأسطورة كما أنها بحاجة إلى مجتمع يرويها وصانع يصنعها، وقد لا يكون الصانع واحد على أية حال، رغم ذلك فإنها بحاجة إلى قارئ يتقبل وجودها، وبمعنى آخر فإن الأسطورة بحاجة إلى ثقافة تنتجها وتأولها، أو فلنقل هي بحاجة إلى ثقافة تحترمها. لذلك من الصعب الجزم بقدرة روائي قدير كساراماغو على تمرير أسطورة الموت على قارئ معاصر، مع كوني كقارئ وجدت متعة بالغة في ذلك.