يرى الناقد والقاص الدكتور حسن النعمي أن الثقافة تتغير تبعاً للمكونات السياسية والمثقف ظل متهماً مطارداً أو متملقاً مذعناً للواقع من حوله. بهذا المعنى خسرت الثقافة القدرة على التنوير وانتهى به الأمر للتسليم للواقع. وأكد أستاذ السرديات بجامعة الملك عبدالعزيز في حوار خاص للجسر الثقافي ان أكثر النصوص ضعفاً أكثرها استجابة لأدوات الناقد من حيث كشف المضمرات والإيديولوجيات الخفية في النصوص ورأى ان اتجاهات النقد العالمية تأثيرها بالغ ويزداد إذا لم يكن هناك بدائل حاضرة في الثقافة المستقبلة كما أن فن الرواية يتقاطع ويتماس مع التاريخ دون أن يفقد فنيته ورحب بتجارب القصص القصيرة جدا المنشورة عبر صفحات مواقع التواصل مؤيدا التعددية في منافذ النشر، مؤكد انتهاء زمن منافذ النشر التقليدية ومطالبا النقاد بقبول هذا الجو الجديد واثقا أنه لن يبقى إلا الجيد من الإبداع. وفيما يلي تفاصيل الحوار: مكونات المجتمع من وجهة نظرك، هل تصنع الثقافة الحالية جيلا واعيا أو تبني فكرا؟ الثقافة تتأثر بالمعطيات المتاحة، تتأثر بالخطابات المختلفة الدينية والسياسية والاجتماعية، وتؤثر فيها عملية استحضار التاريخ بوصفه خازن التراث ومستودع المرجعيات. وعليه لا يمكن تقييم الثقافة دون النظر في مكونات المجتمع الأخرى. وأي حالة قوة أو ضعف ستنسحب على الثقافة. في عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت مقومات المجتمع ومعطياته تدفع بتقديم خطاب ثقافي متجاوز لمخزون التراث بإضافة روافد جديدة من الانفتاح على الثقافة العالمية والإنسانية. وكانت النتيجة بناء جيل منفتح لديه قابلية التوازن، ولديه القدرة على فهم العالم بشكل أكبر. كان الخطاب الإسلامي في تلك المرحلة متصالحاً مع نفسه ومع العالم إلى حد ما، وكانت الخطابات القومية تسعى لصياغة الشخصية العربية، وكانت خطابات النهضة المعرفية تقوم بالتنوير المعرفي والاجتماعي. حصلت الانتكاسة مع هيمنة العسكر في الخمسينات والستينات الميلادية، إذ كان خطاب العسكر إقصائياً ولم يستوعب الشخصية العربية التي لا تعمل إلا في سياق من الحريات النسبية. وأدى فشل العسكر إلى ظهور الوجه الآخر وهو صعود تيارات الإسلام السياسي، فخرجت المجتمعات العربية من قبضة العسكر إلى استغلال تيار الإسلام السياسي لعواطف الجماهير. الثقافة تتغير تبعاً للمكونات السياسية، ولم تستطع الثقافة العربية من مشرقها إلى مغربها أخذ المبادرة، لأن المثقف ظل متهماً مطارداً، أو متملقاً مذعناً للواقع من حوله. بهذا المعنى خسرت الثقافة القدرة على التنوير، على بث الوعي لأن المثقف ظل منبوذاً مداناً، وانتهى به الأمر للتسليم للواقع. مقاربة المعنى عنيت كثيراً بالمنهجية النقدية التي تقوم على علم النص كيف تنظر الى تحقق الاتجاهات النقدية الحديثة؟ مقاربة الأعمال الأدبية وفق رؤية منهجية من شأنها أن تصنع قراءة متماسكة، تجدد آفاق المعنى وتنتج قراءة فاحصة لمنطوق النص. وكل المناهج على اختلافها بدءا من البنيوية والبنيوية التكوينية ذات الميل الإيديولوجي، والسيمائية ذات الطبيعة الشمولية في استنطاق العلامة، وانتهاءً بالتفكيك والتأويلية والتاريخية، كلها مناهج قراءة ومفاتيح للمعنى من زوايا مختلفة. وكل المناهج لها هدف واحد بطرق مختلفة، وهو مقاربة المعنى. فالطرق والمناهج مسالك تمنح الضوء للسالك في غابات النصوص. القراءة المعرفية هل يعتمد الناقد مبدأ المفاضلة لغربلة المنتوج الادبي؟ هذا النوع من النقد هدفه التمييز بين جيد النصوص وغيرها، وهو دور مهم، لكن الأهم قراءة النص في سياقات معرفية لا تهتم كثيراً بالجودة من عدمها، لأن الأمر في النهاية نسبي. وفي الحقيقة أكثر النصوص ضعفاً أكثرها استجابة لأدوات الناقد من حيث كشف المضمرات والإيديولوجيات الخفية في هذه النصوص. وهذا ليس معناه أن النصوص الجيدة لا تحقق للناقد ما يبحث عنه. أنا شخصياً تهمني القراءة المعرفية للنصوص أكثر من التقييم الجمالي الصرف. إذ كثيراً ما استخدمت المكونات الجمالية في النصوص بوصفها مفاتيح قراءة أكثر منها زخرفاً فنياً خارجياً. النظريات الحديثة بصفتك ناقدا يشتغل بالساحة الأكاديمية، هل الجامعة تمارس نقدا للنص الأدبي والإبداعي أم أنها تجعله يخضع إلى مقاييس قد تكون اندثرت تقتل النص فور خروجه إلى القارئ؟ الجامعة من خلال برامج الدراسات العليا تساعد الطلاب على اكتساب منهجيات جديدة للتعامل مع النصوص. وفي الحقيقة طلاب الدراسات العليا يختلفون في القدرة على الاستجابة للنظريات الحديثة والإجراءات والقراءة الجديدة. وأحياناً قد لا يواكب بعض الأساتذة تطلعات الجامعة في بناء شخصيات معرفية ذات رؤية نقدية فاعلة للحياة. النقاد الشباب كيف ترى تجارب النقاد الشباب هل هم منتجون لتصور نقدي «محلي» ممتلكون لمشروع منهجي؟ النقاد الشباب يختلفون فمنهم الموهوب بالفطرة، ومنهم من يتكلف. المهم أن نجد من يدعم موهبته بالقراءة والبناء المنهجي حتى تكون له شخصيته النقدية. منظور فكري النص المعاصر بين مطرقة الحداثة وسندان التراث والجدل الفكري بينهما لا يزال قائما، في منظوركم الثقافي هل هناك تقارب بين التراث والحداثة؟ التراث منتوج بشري، والحداثة منظور فكري معاصر للحياة يتخذ من العقل ركيزة في قراءته. المشكلة في تقديس التراث من ناحية، وفي اعتبار الحداثة النافذة الوحيدة الممكنة لقراءة التراث. هنا وقع التوتر بين من ينكفئ على التراث ويقدره ويدعو إلى حمايته، وبين من يرى أن التراث قابل للقراءة المطلقة التي لا تحدها حدود. والحقيقة لا تراث يحمل تقديراً مطلقاً لأنه جهد بشري فيه القوة وفيه الضعف، فيه ما يصلح لعصرنا وفيه ما هو عبء على واقعنا، كما أن الحداثة بتفريعاتها المختلفة يمكن أن تكون نافذة من ضمن النوافذ الأخرى المطلة على التراث، ولكن بطريقة علمية موضوعية لا تنتقص ولا تحجم الموروث الإنساني، مع ضرورة استحضار ما هو إيجابي والبناء عليه. هذه مأساتنا بعد رحيل أي مبدع تنشط جهات لتكريمه، فهل نحن أمة تمجد موتاها؟ هذه مأساتنا في العالم العربي، نقول شكراً بشكل بارد ومتأخر. في هذه الحالة أرجو أن يكون التكريم متجاوزاً الخطب والقصائد، إلى الاهتمام بإنتاج الأديب وإعادة طباعته وقراءته قراءة علمية متجددة. مصادر عالمية النقد العربي في مغربه ومشرقه يكشف عن بنى متعددة فهل هذا التوحد في البنى أو الاختلاف يعود إلى أسباب سوسيولوجية وتأريخية؟ النقد العربي قائم على تغذية من مصادر عالمية، فدرجة التشابه واردة، ذلك أن اتجاهات النقد العالمية تأثيرها بالغ، ويزداد تأثيرها إذا لم يكن هناك بدائل حاضرة في الثقافة المستقبلة. وهذا حال النقد العربي يستوعب ويطبق، لكنها لا تضيف. السؤال هل النقد العربي عاجز، أم أنه جزء من ثقافة أكبر؟ المنطق أن النقد جزء من ثقافة، والثقافة جزء من مجتمع عربي يصارع من أجل الهوية، ويصارع أحياناً من أجل البقاء على مسرح الثقافة العالمي. يستحق التقدير ترشحت مرارا الرواية السعودية في عدة جوائز عربية ما رأيكم في هذا الترشيح هل هو تعبير عن وعي ثقافي بالمنجز الروائي السعودي أم هي مجرد لعبة «بوكر» كما عبر عنها الكثيرون؟ الظروف التي مرت بها الرواية السعودية استثنائية، فهي رواية حاضرة في مجتمع محافظ، والثقافة المحافظة لها اشتراطاتها. والرواية بطبعها ناقدة غير مهادنة، وهو ما لا يتلاءم مع تكوين المجتمعات المحافظة التي تطوع الفنون لطبيعتها. من هنا فإنجاز الرواية السعودية لافت ويستحق التقدير لسببين، أولاً زيادة التراكم الكمي الذي بدأ في التصاعد منذ منتصف التسعينات، والثاني القدرة على تقديم موضوعات ذات حساسية اجتماعية استثنائية. في ضوء ذلك نجحت الرواية السعودية في تسجيل حضور فني كبير محلياً وعربياً، وفازت ونافست باستحقاق على جوائز مختلفة. غير دقيق الرواية السعودية مزدهرة في المبيعات بينما يجري تجاهلها وتهميشها في الدراسات النقدية.. لماذا؟ هذا الكلام غير دقيق، الرواية تحظى بمتابعة نقدية كبيرة، وفي الملتقيات لها نصيب الأسد، ولها حضور في كثير من الرسائل الجامعية. بل لدينا طفرة روائية نقدية مثلما لدينا طفرة روائية مبدعة.. السؤال عن مستوى النقد وليس عن حضوره. سوء فهم كيف تنظر إلى دعوة البعض إلى مصادرة أعمال روائية أو المطالبة بمنعها؟ هذا عبث لا طائل منه، كما أن هذا سوء فهم لطبيعة الرواية. الرواية لا تعكس الواقع ولا تصوره، بل تعكس رؤية كاتبها تجاه الواقع. وعليه فالرواية لا تشوه الواقع ولا تصلحه، بل تسعى لنقده رغبة في الوصول إلى ما ينبغي أن يكون. نص واحد هل يستطيع المبدع أيا كان كسر المتوقع من نصه الإبداعي من طرف الناقد أم هو يخضع إلى التوقعات النقدية التي تمارس فيه من قبل الناقد؟ الحقيقة أن المبدع والناقد طرفان لنص واحد. ولكنهما متغيران في فكرهما، بينما النص ثابت. والمتغير الأكبر هو المعنى. تنتهي مسؤولية الكاتب عند نشر نصه، وتبدأ مسؤولية الناقد عند عملية القراءة. وليس الكاتب معنياً بما يقوله الناقد، وليس الناقد مسؤولاً عن توقع الكاتب من عدمه. إذ عملية القراءة عملية منفصلة عن الكتابة تماماً. ومثلما الكاتب يقدم رؤيته عن الناس والكون والحياة، فإن الناقد يفعل ذلك ولكن عبر النص المكتوب. التجربة المسبقة كثيرون من الكتاب الجدد (الشباب), يبحثون عن أنماط جديدة ومواضيع جديدة وكذا تقنيات سردية جديدة في الرواية مما جعلهم يرفضون كليا أو جزئيا الاباء المؤسسين أو ما سماه البعض (القفز على المراحل السابقة), ما رؤيتكم للموضوع؟ وعلى أي أسس تبنى التجريبية والحداثة في الرواية؟ من حيث المبدأ الإنسان محكوم بالتجربة المسبقة، وهذا ينطبق على المبدع كذلك، فلا أحد يخرج عن الإطار العام للتجربة الروائية، إنما التمايز يكمن في التجويد الفني، وفي ارتياد موضوعات مستجدة بحكم عامل الزمن، أو الاستفادة من هوامش ربما كانت غير متاحة لمن سبق. التعالي يمكن أن يكون ذاتياً، لكنه غير حقيقي في التجارب الأدبية والفنية عموماً. استحضار التاريخ برأيك متى تتخطى الكتابة التأريخ المندرج غالبا في السياق التوثيقي والخبري إلى ما هو إبداعي وفني محض؟ التوثيق عمل علمي له أصوله وقواعده، بينما استحضار التاريخ أو التوثيق التاريخي في الأعمال الأدبية يجب أن يخضع لعامل الفن، بحيث يمكن للكاتب أن يقدم من خلاله رؤيته دون أن نلزمه بموضوعية التاريخ. فن الرواية يتقاطع ويتماس مع التاريخ دون أن يفقد فنيته. وعليه فعند قراءتنا لرواية نميز بين التوثيق المقصود لذاته، أو الموظف لخدمة أحداث الرواية. تجريب الكتابة أكد الدكتور معجب العدواني ان القصة القصيرة جدا التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحتاج لدراسة لأن حرية الكتابة جاءتنا بنصوص أبعد ما تكون عن القصة القصيرة جدا هل توافقه الرأي وكيف ترى واقع هذا الشكل الإبداعي عبر صفحات مواقع التواصل؟ لا بأس من تعدد منافذ النشر، ولا بأس من تجريب الكتابة، لا يمكن أن تكون هناك حواجز تمنع من التواصل. انتهى زمن منافذ النشر التقليدية، ولم يعد لها النفوذ نفسه. وعلينا أن نقبل هذا الجو الجديد، وعلينا أن نثق أنه لن يبقى إلا الجيد من الإبداع. التراث السردي ما جديد د. النعمي؟ أجهز لإصدار كتاب عن دراسات في التراث السردي، وأعمل على إعادة طباعة كتاب رجع البصر الذي نفد منذ زمن والطلب عليه قائم.. من مؤلفات د. حسن النعمي من محاضرة للدكتور النعمي ب «ثقافة» الدمام