في الأيام القليلة الفائتة أخذ الحديث عن التحرش بالنساء في بلدنا حيزا أكبر من المعتاد بسبب مقطعين انتشرا مؤخرا، أولهما في جدة والثاني في الطائف. المقطع المصوّر يثير الغضب فعلا والحنق والاشمئزاز. عبّر الكثيرون عن صدمتهم. مع أنك لو سألت أيا منهم فربما لن يُنكر أن مثل هذه الحوادث من معاكسة النساء اللفظية والجسدية قد تحدث بشكل مستمر. صحيح أننا نعتقد أنها تحدث لكن مشاهدتها في مقطع مصور يجعل الصدمة أشد. وليس بإمكان أحد أن يمنع من تدفق هذه المقاطع المصورة، لذلك علينا أن نعتقد أنه طالما استمر التحرش في الواقع فإن المقاطع المصورة ستظهر، وربما يظهر أشنع مما رأيناه. ومن المهم أيضا أن ندرك خطر هذا على الأمن، فإن الحد الأدنى الذي يريده كل مواطن هو أن يسير آمنا في المدينة وأن يكون مطمئنا حين يخرج أي من أهله أو أقاربه أو أحبابه صباحا أو مساء. الحديث المعقد عن هذه الظاهرة هو عن المطالبة بوجود قانون واضح بشأن التحرش، وثمة معارضة لهذا القانون بحجة أنه يعني ضمنا السماح بالمعاكسات الموافق عليها من الطرفين، وسيعني من ناحية أخرى إضعاف دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث ستوكل المهمة إلى الجهات الأمنية المختصة. من الواضح أن معارضة قانون يتعلق بالتحرش له دوافع أقرب إلى المكاسب الحزبية، وكما قلت سابقا في أكثر من قضية أننا قد مللنا هذه الصراعات حد الملل. إن من يعارض قانونا بشأن التحرش بحجة أنه يجيز ضمنا المعاكسات هو كمن يمنع عقوبة القتل بحجة أنه يجيز ضمنا الانتحار أو المساعدة عليه. إنك حين يُهيأ لك أن منع الاعتداء بالقوة يجيز ضمنا الفعل ذاته بالرضا فإن ذلك يدخلنا في جدل لا معنى له. بإمكانك في أي حوار أن تفترض اعتراضات جدلية تطيل من أمد النقاش، دون أن تكلف نفسك عناء التأمل بها. بينما لو نظرت فيها قليلا لتجاوزتها من نفسك، وللأسف فإن المُملّ في صراعاتنا أنها تعتمد كثيرا على هذه التقنية في الجدل، فليست القوة في ذات الحجة وإنما في طول النفس والأمد في تردادها، والقدرة على ابتكار حجج جديدة دائما ولو كانت ضعيفة. إن سنّ قانون التحرش لن يحل المشكلة جذريا، سيخفف منها وسيردع عددا لا بأس به ممن لا تردعهم القيم ولا الدين ولا المروءة ولا العادات. لذلك فإن سنّ مثل هذا القانون لن يحل المشكلة بقدر ما هو خطوة صحيحة. بينما الخطوة الأكثر جذرية في الحل هي النظر دون تشنج ولا مكابرة في المعادلة القيمية في مجتمعنا، وفي اعتقادي أن هذه المعادلة أثبتت عدم قدرتها على ايجاد مجتمع (متدين/محافظ) كما يروق للكثيرين وصفه به. وللأسف فإننا لا نستطيع أن نعرف أين نقف بالتحديد لأننا لا نملك أرقاما عن التحرش ولا عن العنف الأسري ولا عن كثير من الممارسات الأخلاقية، إننا لا نعرف مجتمعنا وإنما نصف مجتمعنا كما نود أن نراه. والمثير للانتباه والدهشة هنا أن من يصف المجتمع السعودي بأنه مجتمع متدين، هو من ينادي بأننا يجب أن نحافظ عليه من كل احتكاك حقيقي بالآخر، فهو من يدعو لإلغاء الابتعاث ولمنع قيادة المرأة للسيارة، إنه يعرف أنه أنشأ مجتمعا هشا يتقيد بالقيم تقيدا قانونيا وليس أخلاقيا، لذلك هو يؤمن أيضا بأن أهم ما يجب المحافظة عليه وتقويته هو جهاز الحسبة. إن حوادث التحرش هذه يجب أن لا ينظر إليها على أنها حوادث استثنائية، وبرغم أننا لا نملك أرقاما لكننا نعلم بأنها ليست فردية، ولكن كم هو الأمل في أن تراجع الاتجاهات الدينية نهجها ورؤيتها في تكوين المجتمع المتدين القائم على وجود السلطة المباشرة من ناحية، وعلى التوجه نحو المرأة وإعادتها إلى البيت من ناحية ثانية، وتحميلها المسؤولية الأكبر. إنه لمن الغريب حقا أن تكون المرأة هي المعتدى عليها وهي الجانية في الوقت نفسه، وقد رأينا في هذين المقطعين أن دعوى التبرج لم تكن حاضرة، إلا إذا كانت المرأة ككائن بشري يجب أن يُبعد عن أنظار الشباب حفاظا لهم. من المهم أيضا أن نعيد النظر في هذه المعادلة القيمية التي أنشأت شبابا لا يعرف التعامل مع المرأة، ولا يعرف حقيقة قيم الدين ولا الرجولة ولا المروءة، هو لا يفرق بين امرأة تسير في حالها وأخرى قد تطلب المساعدة وأخرى قد تلاطفه وأخرى قد تعاكسه وأخرى قد تسمح له بالتحرش بها. إنه يقف مشدوها أمام هذا الكائن الغريب الذي تم فصله عنه منذ الطفولة، ولم يعد يعرف أين يقف منه ولا كيف يقف.