ما الذي يجعل إنسانا ما يُبدي اهتماما بالقضايا الوجودية أكثر من غيره، من الصعب تحديد نسبة هؤلاء الناس، لكن إذا أخذنا في الاعتبار أن الذكاء ليس كتلة واحدة، فثمة ذكاء رياضي وآخر اجتماعي وآخر في الحفظ وآخر في التحليل وآخر في الموسيقى وثمة ذكاء في السياسة وذكاء عسكري.. فأيضا بلا شك هناك ذكاء وجودي، يجعل المرء يفكر بإلحاح في الوجود وفي مكان المرء وموقفه من هذا الوجود بأسره. فئة من الناس تنشأ عندهم أسئلة الحياة والموت، وأسئلة الغاية والهدف، وأسئلة العلاقات بين الخالق والمخلوق، وبين الإنسان والكائنات وبين الفرد والجماعة.. تبدأ هذه الأسئلة من الصغر أحيانا، أو في مرحلة عمرية، أو بسبب حادثة أو منعطف ما في الحياة.. وتستمر تقوى وتهيمن وتسيطر. كتب حسين البرغوثي الأديب الفلسطيني (الضوء الأزرق) عن مرحلة مهمة في حياته. كان يكمل دراساته العليا في سياتل في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقد ألحت (أسئلته) عليه حتى شعر أنه على حافة الجنون. فبعد أن حشا عقله بكم هائل من المعلومات عن العلوم المختلفة شعر بحاجته إلى الصمت. ظل تسعة أشهر صامتا واختار أن يتسكع على الهامش -هكذا كان يسمي عالمه الاستثنائي الجديد- . اختلط بمن يصفهم الناس بالدراويش، والمجانين، ومن يقفون على حافة الجنون. كانت الأسئلة تثقل عقله، ماذا يقع خلف السياج، ماذا لو اجتاز الحاجز كما اجتازوه هم. لا تستطيع أن تجزم تماما هل الشخصيات التي ذكرها البرغوثي حقيقية أم خيالية، أو هي موجودة فعلا لكنها ليست بهذه الكثافة كما أظهرها في (الضوء الأزرق)، أو هي الشخصيات الكامنة في (اللاوعي) عنده، وتحاول الخروج ولا يزال مترددا في إظهارها. كان يشعر بأن عليه أن يجتاز السياج، أن يرحل إلى ذلك العالم ليرى كيف يكون هذا النوع من الجنون، لكنه كان بنصف قلب كما يقول. لقد اعتاد أن لا يكون هنا ولا هناك، اعتاد أن يكون متنوعا بنصف الكمال في كل شيء يحبه، وأن لا يكون كاملا في شيء واحد، ولم يكن ذلك يرضيه بكل الأحوال. هذا ما جعله غير راض عن نفسه، حتى أنه وصف نفسه بالمزيف على لسان أحد أصدقائه، فبعد أن وصف صديقه بأنه مريض نفسي، وبأن الجميع يرى ذلك ويصفه بذلك بحيث انه لم يعد خافيا على أحد، أجابه بأنه بالفعل كذلك لكن للمرض علاجا، ولكن مشكلة حسين بأنه مزيف، ولا يوجد علاج له لأن المزيف غير حقيقي وغير موجود فكيف يتم علاجه. لا يهم رأينا في صحة هذا الوصف وانطباقه عليه، فأنا على الأقل لست اوافق على هذا، لكن المهم أنه كان يصف نفسه بهذه القسوة وهذه الحدة. حين تعرف أن عليك أن تمضي وحين تكون واعيا بكل تلك التضحيات التي يجب أن تقدمها، وحين تعي تماما واجبك في الحياة، ومسؤولياتك الأخلاقية والوجودية، ثم تجد نفسك عاجزا عن المضي خلف السياج، حينها لن يرحمك عقلك أبدا، ولن يرحمك وعيك قبلها، ستكون هنا بضمير معذب، مثقل بأفكار العتاب، لأنك جبنت عن المضي، لأنك قررت أن تعيش بنصف قلب. في فيلم البجعة السوداء Black Swan التي حصلت فيه الممثلة ناتالي بورتمان على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة رئيسية سنة 2011م، تقوم بدور راقصة الباليه، وتفوز بالدور الرئيسي في عرض كلاسيكي عن فتاة أصابتها لعنة فتحولت إلى بجعة بيضاء، وعليها أن تقع في الحب حتى تزول هذه اللعنة، فتقع في حب الأمير، ولكن بجعة أخرى سوداء تغوي الأمير فيقع في حبها. كان على الفتاة أن تقوم بدور البجعة البيضاء والسوداء في الوقت نفسه على المسرح، وقد استطاعت أن تتقن الدور الأول لكنها تعجز عن إتقان دور البجعة السوداء، تحاول إخراج هذه الشخصية من أعماقها لكنها تعجز، تظن أنها كلما انهمكت في التدريبات ستتمكن من ذلك لكن ما يحدث هو العكس، تجد نفسها أسيرة للحركات الآلية المتقنة، وغير قادرة على التحرر منها، تخوض صراعا نفسيا من أجل ذلك وتظهر عليها بعض الأعراض الجسدية. كانت تتوق إلى الكمال، إلى عبور السياج حتى لو كلفها ذلك حياتها، ترى خيالات وتسمع أصواتا بسبب كل هذه الصراعات والضغوط، فتقرر أمها منعها لكنها لا تستطيع. قال حسين البرغوثي في المستشفى في آخر حياته حيث توفي بمرض السرطان، إنه يشعر بأنه حقق حلما قديما في الحياة، وهو أن يترك أثرا، أما (الكمال) فقد تنازل عنه منذ زمن.. حيث لا يوجد شيء كامل. أكاديمي سعودي