فرانسيس أوجورمان، أستاذ في كلية اللغة الإنجليزية في جامعة ليدز، بالمملكة المتحدة، له عشرون كتابًا، معظمها في الأدب الإنجليزي، وله أيضًا العديد من المقالات في الأدب، والصحة العقلية، والموسيقى. قدَّم في كتابه (القَلَق: التاريخ الأدبي والثقافي) (2015) نهجًا لتأمُّل الحياة العقلية وآلامها المألوفة، وظهور الفكرة المعاصرة عن القلق في العصر الفيكتوري، وترسيخها بعد الحرب العالمية الأولى، كسِمة من سمات الحداثة. وأوضحَ أنَّ عددًا من الكُتاب الذين برزوا فيما بين الحربين العالميتين اعتبروا القلق هو "مرض العصر"، وتناولوا بالدراسة أنواعَ المخاوف اليومية غير المَرضية للقلق، والتي عادةً ما تتعلق بالمستقبل المجهول. ودلَّل على أنَّ القلق رفيق طبيعي في العالم الذي نعيش فيه ونراه عن طريق العقل، مع الاعتقاد بأنَّ لنا الحقَّ في الاختيار، واكتشف كيف صاغ العالم الحديث مخاوف الإنسان اليومية وشكَّلها. مقتطفات من المقدمة وإحدى المراجعات. إنها الرابعة فجرًا..! الشارع خالٍ تمامًا، ظلام حالك يلف الغرفةَ، وليس ثمة صوت يُسمع، إلا صوت أنفاس هادئة تنبعث من زوجتي، وقططها الثلاث، وجميعهم يغطون في نوم عميق! لا شيء سوى الظلام، وسكون تام، وأقرب منزل إلينا في وسط المدينة يقبع في جوف الليل بصمت كصمت الموتى. ولكن على العكس مما حولي، في رأسي ضجيج مهتاج، وأصوات من الهواجس المضطربة، هناك: ضجيج، وضربات عنيفة متتالية. أنا مستيقظٌ تمامًا، هذا النوع من الاستيقاظ المحتمل في منتصف الليل، حين لا شيء يماثله، عندما تنهال الأفكار واضحة وملحة، وتثير القلق. لكنني لست مريضًا، ولا أهذي، ولستُ أعاني من أية حالة نفسية تستدعي وجود طبيب. أنا بخير تمامًا، بل وأستمد الإحساس بالأمان في حياتي ممَّن حولي، فكلُّ مَن يهمني أمرهم مستلقون بجواري بخير وسلام. هؤلاء مَن أحب. إذًا ما الأمر؟ ما كل هذا الضجيج؟ لماذا أنا منزعج هكذا وأشعر بالقلق؟! قال الروائي الإنجليزي في القرن التاسع عشر، أنتوني ترولوب، في «مزرعة أورلي»: "غالِبًا، ليس هناك مواساة للرجل من الضَيْم المتأَصّل إلا الشعور بأنه جَرِيح، وهي المواساة التي يمكن لعقله أنْ يحتضنها". القلق حالة غريبة واكبت وجود الإنسان على الأرض. ويمكن تتبُّع تاريخ الكلمة من اشتقاقها، بدءًا من المعنى القديم لكلمة (خنق)، ومرورًا بمدلولها في عصر النهضة (المضايقة الجسدية)، إلى مفهومها الحديث (القلق المعتدل). إنَّ المفهوم الحالي للقلق لم يظهر إلا في مطلع القرن التاسع عشر، مع نمو المدن الكبرى وإزدهار الصناعات الحديثة. ومنذ ذلك الحين، تسلل القلق إلى حياة سكان المدن المنهمكين بالأعمال، والذين يستخدمون أدمغتهم أكثر من اللازم. القلق تجلى بلمحات من التألق في أعمال فرجينيا وولف، وتوماس ستيرنز إليوت، وويستن هيو أودن، وغيرهم ممن استشهد بهم مؤلف هذا الكتاب بسخاء أستاذ الأدب الفيكتوري. إنَّ القلق يتطور كمصدر متميز من المعرفة عند حدود العقل خارج الإيمان، و"ولادة القلق" هي "لحظة تحول ثقافي من الإيمان المطلق في القوى القادرة إلى الفكر أو المنطق باعتباره السبيل لفهم الوجود الإنساني في العالم". هذا التركيز على العقل وأدواته التي تتكون من خيارات لا حصر لها، يعزز فكرة أنَّ علينا استخدام القوى الخاصة بنا للتمييز بين أفضل الخيارات؛ فلا عجب إذًا أنْ نقلق. في الواقع، يقع القلق فقط في عالم الاختيار والحيرة، وهو ممكن أكثر عندما يفكر البشر، في المقابل أنَّ لديهم القدرة، ناهيك عن الحق، ليختاروا لأنفسهم. مع هذه المفارقة، يدل القلق أيضًا على حدود العقل. "يُظهِر القلق ما نعتقد به حقًّا، فعلى الرغم من كل إيماننا بالعقل، ورغبتنا في أنْ نفكر بأنفسنا كمخلوقاتٍ منطقية، إلا أننا حقًا نتشكل حسب ما نعتقد". العقل القلِق يشبه العِمارة القوطية الكبيرة، يضم "ابتكارًا، وخيالًا، وتبايُنًا" والطقوس العقلية للإنسان القلِق "التكرار، والاستدارة، واختِلاجات الهوس" تُظهر مدى عمق الحاجة إلى استمرار هذه الطقوس. ولكن القلق في حقيقته أكثر من مجرد شكل من الجنون مُفرط النَّشاط، ففي بعض الحالات، يمكنه أنْ يشحذ تصوراتنا. "إن الأشخاص القلقين مؤهلون في تحليل حالات العقل، واستجاباته الشعورية، وتمييز فروقه الدقيقة، وظله الفارق". وبدون مبالغة، قد يكون الإنسان القلق أكثر فهمًا على أرض الواقع من المتفائل المبتهج. وبعد كل شيء، يذكر الكاتب أنَّ الثقة تتسم بالمرح والابتهاج، وإن السعادة يمكن أنْ تكون مربكة، كستار من الدخان الكثيف يحول دون النظر في المشاكل كما هي في الواقع. وتُظهر الأبحاث أنَّ القلق قد يخلق منطقة عازلة ضد الأمراض العقلية الأكثر خطورة. هذا الكتاب ليس الغرض منه المساعدة الذاتية. في الواقع، بل هو إشارات إلى هذه الحالة المعاصرة. ولا هو بالكتاب الروحي بأيِّ حال من الأحوال، وإنما -كما يوحي العنوان الفرعي للكتاب- يعرض التاريخ الأدبي والثقافي للقلق، فضلًا عن أنه كتاب شخصيٌّ، فقد اعترف المؤلف بأنه إنسان قلق. هذا الكتاب هو تمرين بشأن القلق. وهكذا، إن القلق في كثير من الأحيان متكرر، غير منتظم، ومتسامح قليلًا مع النفس. وبطبيعة الحال، الانغماس الذاتي، كما يشير الكتاب، هو جوهر القلق. "القلق بصمت هو أنْ يشعر بنوع معين من التقارب مع النفس". ومن المفارقات، أنَّ القلق قد يصبح في بعض الأحيان مصدرًا للراحة! تاريخ القلق هو رواية لقصة طبيعية من خيالنا الذي استولى عليه سؤال: "ماذا لو..؟"، وتصورات لمشاهد متدفقة ومذهلة لا تنتهي، ولا تعرف التوقف.