بين الحين والآخر يطلّ علينا فردٌ أو اثنان بكلمة أو اثنتين تحمل بين ثناياها إساءة بالغة لهذا الدِّين ، وإساءة بالغة لمن ينتسبون إليه بزعم حريّة الرَّأي ، أو الفكر ، أو المعتقد ، وذلك تحت ذرائع واهية تسقط من أوّل وهلة ؛ لأنَّها لا تستند لعقل ، ولا تقوم على دليل. في الآونة الأخيرة ظهر بين ظهرانينا من أساءَ الأدبَ مع الله جلَّ في عُلاه ، وبرز من أساءَ الأدبَ مع رسول الله عليه أفضل الصّلاة وأتم التّسليم. إنَّ كلّ إساءة ، مهما بلغت من القسوة والظّلم تهون أمام الإساءة فيما يمسّ الذَّات الإلهيّة ، أو أمام الإساءة إلى مقام النّبوة ، أو أمام المساس بأساسات العقيدة الإسلاميّة. أعرفُ من نفسي أنَّني أميل إلى إعمال العقل ، وأبارك لكلّ من يقدّم عقله على ما سواه ؛ ولكنَّني في المقابل لا ألتمس في العقل كلّ شيءٍ أبتغيه ، فقصور العقل يؤخذ في الحسبان عند أولي الألباب. إنّنا كثيرًا ما نسمع كلامًا جميلًا يٌقال في مجالس التّرف الفكري والعقلي عن الاعتقاد بالشيء والاقتناع به ؛ ولكنا لا نستطيع أن نتلمسه أو نحسّه ؛ لأنَّ القارئ الجيّد لتأريخ الأمم يدرك من أوّل وهلة مدى هشاشة ذلك المبدأ إذا أُخِذَ على علاّته ؛ لأن إيمان النّاس في الجملة ، وما يحملونه من قناعات تؤخذ تَباَعًا بالوراثة دون رويّة أو تمحيص أو تحقيق ؛ لأنَّ القلب هو الذي يقوم بعمليّة الاختيار وليس العقل ، وهذا لا يتعارض أبدًا مع مبدأ القناعة العقليّة ؛ لأنَّ العقل يتأثّر أيّما تأثر بشريان ذلك القلب. دعوني أضرب الأمثلة: أغلبية البريطانيين اعتقدت بالبروتستانتيّة .. فهل تمّ ذلك عن قناعة محكومة بالعقل بعد دراسة وتمحيص؟!. واليهود في جملتهم يفتخرون بيهوديتهم .. فهل لأنَّ عقولهم أوصلتهم إلى هذه القناعات؟!. إنَّ حالة هنري الثّامن الذي انشقّ عام 1535م عن الكنيسة الكاثوليكيّة وانشقت معه بريطانيا بكاملها تعطينا مصداق كلّ ذلك. إنَّ التّأريخ يحدثنا كثيرًا ؛ ولكنَّه لا يعطينا النّتائج إلاّ في أوقات متأخرة جدًا ؛ فعندما سقطت الشّيوعيّة تبدَّى واقعًا أنَّ غالبيّة الشّعب الروسي عاد إلى الأرثوذكسيّة ، وعاد مسلمو السوفيت إلى إسلامهم ، وانسحب الأمر إلى يوغوسلافيا حيث عودة الكروات إلى الكاثوليكيّة ، والصّرب إلى الأرثوذكسيّة ، والبوسنيون إلى الإسلام. فمن يقول إنّ كل إنسان يختار عقيدته بعقله مجرَّدًا فقد جافى الحقيقة. فليس بمقدور كائنٍ من كان أن يزعم أنَّ الفكرة النّاجحة هي الفكرة الصحيحة ؛ ففي التّأريخ الكثير من الأفكار النّاجحة ؛ ولكنها في الواقع غير صحيحة. في القرن العشرين نجحت الشيوعيّةُ في عدّة أقطار مع ثبوت فشلها واقعًا وتاريخًا حيث لم تمرّ سنوات حتّى تهاوت تلك الفكرة مع انتشارها فتسقط دون رجعة. إنَّ الإيمان بالله لم يزل ، كما كان دائمًا قائمًا في الأنفس القلوب ، ولم يزل صوت الفطرة العالي يطغى على كلّ عقلٍ أو فكر مهمّا علا ذلك الصّوت أو طغى ، فمن رزق الفطرة ونقاء الفكرة فلن يضيره صوت فردٍ هامش أسأ الأدب مع الله - سبحانه وتعالى- ، أو مع رسوله -صلّى الله عليه وسلم-.