لم يكن يدري المليونير البلجيكي ادوارد امبان، أن القصر الذي شيده في منطقة صحراوية، أوائل القرن العشرين، سيصبح لاحقاً تحفة معمارية تقع على مشارف القاهرة المزدحمة فى قلب منطقة مصر الجديدة، وسيتحول إلى قصر مهجور يحاصره الرعب والغموض والإهمال. من يغادر مصر عن طريق شارع العروبة متجها إلى مطار القاهرة لابد أن يمر على هذا القصر المحاط بالسياج الحديدية التى يكسوها الصدأ وأثار الماضى وهواجس الحاضر وقبل دخول القصر نرى مساحات كبيرة تضم حدائق رائعة مازالت وزارة الآثار المصرية تستغلها فى إقامة الحفلات لكبار الزوار بشرط منع الدخول الى القصر المهجور. وصل البارون إمبان إلى القاهرة بعد أن رست سفينته القادمة من الهند شاطئ قناة السويس كان يعشق السفر والترحال وجمع المال وإقامة المشروعات فى كثير من بلدان العالم، حيث كان إمبان مهندسا متميزا ومن قلب القارة السمراء والتى حقق منها ثرواتة الطائلة. انطلق سهم الغرام فى قلب المليونير البلجيكى حيث سقط فى جمال وسحر الشرق.. عشق إمبان مصر لدرجة الجنون واتخذ قرار مصيريا بالبقاء وكان طبيعيا أن يبحث له عن مقر إقامة دائمة فى القاهرة قرر البارون وهو لقب منحة إياه ملك فرنسا تقديرا لمجهوداته فى إنشأ مترو باريس أنشأ حياً فى الصحراء شرق القاهرة واختار له اسم (هليوبوليس) ويعنى مدينة الشمس التى لا تغيب وكانت المنطقة تفتقر لوسائل المواصلات والخدمات وفكر امبان فى إنشاء خط مترو يربط بين مدينته الجديدة والقاهرة لكي يستطيع جذب الناس والتى أصبحت الآن من أشهر وأرقى أحياء مصر وهي مصر الجديدة. واستطاع إمبان بحنكته وذكائه إقامة منازل على الطراز البلجيكي الكلاسيكى فى ضاحيته الجديدة بالإضافة الى بناء فندق هليوبوليس القديم والذي يعد من أعظم وأفخم الفنادق، حيث ضم مؤخرا الى قصور الرئاسة فى مصر نظرا لفخامته وعراقته. حكاية أسطورة وقرر البارون إقامة قصره الأسطوري، الذي صممه فوق ربوة مرتفعة بحيث لا تغيب عنه الشمس من لحظة شروقها، حيث تدخل جميع قاعاته وردهاته وحجراته، واكتمل بناء القصر عام 1911م، وأصبح من أحد أفخم القصور، ليس في مصر فقط، بل في العالم وذلك لتصميمه المعماري الفريد، حيث خطط على الطراز الهندي. ويقع القصر على مساحة 12 ألف متر ونصف، حيث شرفاته الخارجية محمولة على تماثيل الفيل الهندية وينتشر العاج فى الداخل والخارج والنوافذ ترتفع وتنخفض مع تماثيل هندية وبوذية. أما داخل القصر فكان عبارة عن متحف يضم تحفا وتماثيل من الذهب والبلاتين، كما توجد ساعة أثرية قديمة يقال إنه لا مثيل لها إلا فى قصر باكنجهام الملكى بلندن، توضح الوقت بالدقائق والساعات والأيام والسنين مع تغييرات أوجه القمر ودرجات الحرارة . ويتكون القصر من طابقين، وبه سبع حجرات كبيرة وصالتان، في الشمال يوجد برج كبير مكون من أربعة طوابق بسلم حلزوني داخلي من الخشب والرخام .. وفي مدخل القصر بعض التماثيل الرخامية والحجرية التي تمثل أشكالا حيوانية وآدمية. وفي كل ركن من أركان القصر يحمل رسومات هندية نادرة وعلى جدران قاعة المائدة رسومات دافينشي وأرضيات الحجرات من الباركيه وكل غرفة لها حمامها الخاص بها. وقد استخدم إمبان أثمن مواد البناء التى تم استيرداها من ايطاليا وبلجيكا، في تشييد القصر كالمرمر والرخام والفسيفساء والزجاج الملون. أما الطابق الثانى فيحتوي على عدة غرف واسعة تطل على شوارع القصر الأربعة كشارع العروبة وابن بطوطة وابن جبير وشارع حسن صادق وفى هذه الغرف شرفات توجد بها مقاعد ملتوية محاطة بالتماثيل من كل جانب. وحين الصعود إلى سطح القصر الأسطورى بواسطة سلم مصنوع من الخشب تلفت نظرنا جدران السطح التي تكسوها رسوم نباتية وكائنات خرافية فالتماثيل التى جلبها إمبان من الهند مصنوعة من الرخام الأبيض ذات ملامح رومانية فضلا عن تماثيل الأفيال المنتشرة على مدرجات وشرفات القصر منقوشة بالزخارف الأغريقية ويشهد هذا الثراء الفني للقصر على مدى الفخامة والإبداع. إهمال وأساطير وبعد وفاة البارون امبان عام 1929م تعرض القصر خلال خمسين عاما لإهمال شديد، حيث أصبح القصر المهجور وتشتت جهود ورثته، وتحولت الحدائق إلى خرائب. الى ان اتخذت الحكومة المصرية قرارا بضمه الى قطاع السياحة وهيئة الآثار، حيث يشرفان على عمليات الإعمار والترميم على أمل تحويله الى متحف أو أحد قصور الرئاسة المصرية فى محاولة لإحياء القصر وإعادته الى سابق جماله وروعته. وبسبب اغلاقه المستمر نسج الناس الكثير من القصص الخيالية حول مشاهدتهم أضواء ساطعة وسماع أصوات موسيقية تنبعث من داخل القصر وإنه صار مأوى للشياطين. وقد دفعت تلك الأجواء الغامضة إلى تسلل جماعة من الشباب المصرى عام 1997م إلى القصر ليلا، وإقامة حفلات صاحبة ممزوجة بالرقص والغناء وقد ألقت الشرطة المصرية القبض عليهم لتكون أول قضية من نوعها يطلق عليها قضية (عبدة الشيطان). وبعد نصف قرن من الزمان أصبح القصر مصريا بعد أن أبرم المهندس محمد إبراهيم سليمان اتفاقية مع جان امبان حفيد البارون بشراء القصر مقابل قطعة أرض بديلة بالقاهرة الجديدة ليقيم عليها ورثة إمبان مشاريع استثمارية . وفى النهاية سيظل قصر البارون المهجور بما يحيطه من غموض وأقاويل وأساطير تحفة معمارية مميزة يشهدها جيل بعد جيل وسيبقى هذا القصر الأكثر رعباً في تاريخ مصر.