تأتي الصدمة على قدر التوقع. كلما كانت توقعاتنا عالية كان مستوى الخيبة عاليا أيضا. وتأتي النكتة مدوية كلما كانت المفارقة أكثر غرابة. عندما يزلُّ شخص بسيط متواضع الفهم، محدود الثقافة، قليل التجربة، فينتج عن تلك الزلة قول أو موقف مستهجن، فإن المفارقة أقل غرابة. سوف تلتمس له العذر قائلا: "إنك لا تجني من الشوك العنب". لكن تبدو المفارقة أكثر غرابة حين يفقد مثقف "كبير" البوصلة، ويفقد معها المصداقية، فيتحول من مُشَخّص لأسباب الخلل إلى عَرَضٍ من أعراضه. ما الذي يتبقى بعد ذلك غير الأفكار المناقضة للمواقف؟ ما الذي يتبقى إذا تحول المثقف إلى "بائع للأوهام" كما يعبر الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه في الحوار الذي أجراه معه «جان زيغلر» تحت عنوان: "كيلا نستسلم". "تكلم حتى أراك". لكن الكلام في الأيام العادية لا يشبه، بأية حال من الأحوال، الكلام في الأيام العاصفة. فهو في هذه الحال أكثر إثارة للرواسب، وتعبير عن دخيلة قائله. وعلينا تحوير عبارة «سقراط» لتصبح "تكلم في الأيام العاصفة حتى أراك" عندئذ ستكون الصورة أوضح. في هذه الأيام العاصفة يملأ بعضهم مواقع التواصل الاجتماعي "ثغاءً" يتذاكى. لكنهم لا يفعلون أكثر مما يفعله أو يقوله أي كومبارس في مسرحية ما. الاختلاف في الرأي أو الموقف شيء وارد ولا غبار عليه، أما تسويق البلاهة فشيء آخر. الأزمات مناخ ملائم لتفريخ المفارقات والمواقف العجيبة. وقد تُجرّد بعضهم من استقلاليته، ومن رأيه النقدي الموضوعي الرامي إلى تفسير الأشياء. وقد يخسر بعضهم نفسه ليكسب من حوله، أو ليحافظ على امتيازاته. مع ذلك، قد تكون بعض المواقف، في بعض الحالات، ناتجة عن قراءة خاطئة، أو عن قصور في الرؤية دونما مكابرة أو سوء قصد. نعم، قد تنتج عن عمى الألوان الثقافي مواقف مشابهة، وفي هذه الحال تكون المصيبة خفيفة هينة، لأنها ناتجة عن قلة دراية. "فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة" لكنها مصيبة أخف وطأة من المصائب الناتجة عن المكابرة وسوء القصد. ما أشبه الليلةَ بالبارحة! وقد كان القرن العشرون وإلى منتصفه عاصفا، تتقاذفه عواصف الأيديولوجيات والصراعات، وقد تحولت بعض الرموز الثقافية من حرَّاسِ قِيمٍَ ومبادئ إلى شهود زور. كما تحولت الثقافة عندهم من مشروع للتنوير إلى لعبة إعلامية مراوغة. ذلك ما يسميه ريجيس دوبريه "خيانة للأفكار". يبدأ الانحدار عندما يحاول المثقف أن يلعب دورا سياسيا. لذلك نأى دوبريه بنفسه عن لعب ذلك الدور، وعاد إلى طاولة الكتابة ليكون شاهدا نزيها على عصره. لا يستطيع الباحث عن الحقيقة أن يفسر الأشياء بشكل موضوعي إذا كان طرفا في اللعبة يرابط في خندق آخر غير خندق الحقيقة. في مقال سابق بعنوان "عودوا إلى طاولة الكتابة" أشرت إلى المأزق الذي وقع فيه بعض أولئك الكتاب الذين استدرجهم طُعْمُ الأزمات والأحداث الساخنة التي مرت بها المنطقة العربية، فنسوا دورهم، وقبلوا بدور الكومبارس، فانخرطوا في لعبة سياسية يصعب فيها الحفاظ على أدوارهم الحقيقية، أو على القيم الجمالية والأخلاقية التي بشروا بها. وكان عنوان المقال يقترح عليهم العودة إلى طاولة الكتابة. لكن أحد الأصدقاء علَّق على ذلك الاقتراح بقوله: إنه لا جدوى من عودتهم إلى طاولة الكتابة، فمن الصعب ترميم المصداقية بعد أن تصدَّعت!.