ما زلت على قناعة أن من أهم اكتشافات الإنسان الأخيرة وعيه بدور الزمن المركزي في الوجود، بحيث بات من الصعب جدا تصور الإنسان دون زمن، فالزمن هو ما يحدد شخصيته وثقافته، وهو ما يحدد مستوى تفكيره ومبادئه. إن تحريكا يسيرا في زمان وجود المرء يجعل منه شخصا آخر قد لا نستطيع أبدا التنبؤ بماهيته. هذه الطبيعة الزمنية هي التي أوجدت النزعة التاريخية في تفسير الأحداث. إنك تملك القدرة اليوم، وبكل شعور بالزهو والفخر، أن تحكم على نظرية ظهرت قبل خمسة قرون بالخطأ، أو حتى بالبدائية والسذاجة، وقد تطلق عجبك في كيفية تفكير أولئك السابقين وعدم انتباههم لبداهة الأخطاء الكامنة في نظرياتهم. العالم اليوم يتعجب ويسخر في أحيان كثيرة من سلوك بني جنسه في تقديم الأضحيات البشرية، قد لا تنجو أمة سابقة من هذا السلوك، ويفكر أبناء اليوم في العقول التي سمحت لمثل هذا التصرف أن يتحول لسلوك جمعي ومقبول ومبرر بل وقانوني. وهو -بلا شك- يعد نفسه متحضرا حين يجد أن إدانة ذلك الفعل من البدهيات. إن ابن اليوم ما زال ينظر إلى التاريخ بوصفه يقف على قمته، يتربع على عرش نضجه، ويرى البشرية من علو وعيه، حتى أصبح يسم كل فكرة سابقة بالرجعية والمتخلفة. بل أصبح التخلف، أي البقاء في الخلف لا يحمل أية دلالة إيجابية. لست أعترض على أهمية التقدم أبدا، بل ولا على إدانة فكرة سابقة تجاوزها العقل البشري، فهذا أيضا من الطبيعة البشرية، ولكن ما تعلمنا إياه النزعة التاريخية أن على الإنسان أن يتواضع أمام منجزاته التي يظنها عظيمة بسببه. تعلمنا النزعة التاريخية ألا نغتر؛ لأن الزمن حاضر في منجزاتنا، فلولا أن الزمن أفسح الطريق أمام أفكارنا لما ظهرت هذه الأفكار. إنه من غير الممكن إنكار عبقرية اينشتاين، لكن أيضا من غير الممكن لاينشتاين أن يحقق مجده العلمي لو كان في العصور البدائية، لقد حالف اينشتاين الحظ بأن جاء في لحظة زمنية حملت قدرا من التراكم العلمي البشري، جعلت عبقريا مثله قادرا على استثماره. وباستطاعتنا أن نتخيل اينشتاين في سيناريو وجودي آخر يعيش مظلوما في السجون أو يموت طفلا بمرض الملاريا. أو يكون في الجزء الآخر من العالم مقاوما قوى الاستعمار الأوروبية التي تحاول سرقة الذهب والفضة في القرن الرابع عشر الميلادي. ويموت في شبابه موصوفا في أوروبا بأنه مات يحارب قوى التنوير. لقد كان اينشتاين محظوظا جدا أن جاء في لحظة تاريخية سمحت له بتسطير مجده العلمي. من ناحية أخرى، يبدو أن الزمان هو الذي يشكل تعاملنا مع الوجود، إن حد العمر الافتراضي الذي يدركه الإنسان لحياته والذي يتراوح بين الستين والثمانين غالبا، هو الذي يحدد تقسيمات حياته دون شعور، ولو افترضنا أن الطفل ظن خطأ أن حياته بين التسعمائة وألف فإن حياته ستكون مختلفة عن باقي البشر، إن حجم طموحاتنا تتناسق مع أعمارنا. وهذا يحدث بلا وعي منا. بل من خلال تربية جماعية. كما أننا لا نستطيع أن ننكر أن طول العمر سبب رئيسي في إنجاز كثير من العلماء، حيث كانوا يملكون الوقت الكافي لإظهار ومراجعة ونشر ونقد ما أرادوا إنجازه. نجهل أثر الموت في حياتنا، مع أننا حين نصحو كل يوم ونمضي لشؤوننا تكون فكرة الموت مضمنة في كل أفعالنا. الموت هو ما يجعل للمستقبل قيمة، بل إنه لا معنى ولا وجود للمستقبل لو أننا لا نموت. لو كان الإنسان خالدا لتلاشى المستقبل، ولتلاشت الطموحات، ولما بقي في تفكيرنا سوى الآن. هذه اللحظة التي نعيشها. لأن الزمن صار كله لحظة ممتدة لا نهاية لها. ليس هناك من شيء قادم يمكن أن يفوت، لكن الموت يجعل العمر يمضي ويجعل الطفولة شيئا لا يعود، ومثلها المراهقة. إن الإمكانيات اللا نهائية لحياتنا، والتي تقل كلما مضينا في العمر، والقلة هنا نسبية، فمع انحسارها إلا أنها تبقى كثيفة ومغرية، هذه الإمكانيات نقوم بحسمها في كل لحظة عبر خيار واحد، لسنا وحدنا من نقوم به، بل الظروف أي التاريخ والزمن تشكل سلطة علينا لتحديد هذا الخيار. وإن الخلود يجعل هذه القيمة تتلاشى. إن الطفولة والتعلم واكتشاف الحياة والصحة والمرض والقوة والضعف.. والمضي في العمر، مرتبطة بشكل وثيق بفكرة الزمن. إنها الطبيعة البشرية القائمة على الزمن والتي من غير الممكن تصورها بدونه. وإن الخلود يعني تغيير في كل هذه المعطيات. ويعني انعدام فكرة الممكنات في كل لحظة. لأن اللحظة ستكون باقية وخالدة وكل شيء لا يزال ممكنا. ولا تصبح الحياة هي الحياة التي نعرفها اليوم. * أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد