دعاني لكتابة هذه المقالة ما ذكره لي بعض الآباء من أن أبناءهم يقومون بتصرفات غير مألوفة وتقديمهم لأفكار غريبة وغير مألوفة وعدم انسجامهم مع بيئة البيت والمدرسة وتفضيلهم الاستغراق في أفكارهم واهتماماتهم. وبحكم اهتمامي بدراسة سير المبدعين والعباقرة عبر العصور وفي مجالات متنوعة وجدت أن هذه الصفات أهم ما يميز العباقرة عن غيرهم. فالعبقري لا يكتفي بالنظر في ظواهر الأشياء بل يبحث فيما وراءها من أسرار وعجائب. وكثير من العباقرة لا يستطيعون الالتزام بالبقاء في المدارس وبعضهم من أمثال أديسون وإينشتاين تركوا المدرسة مبكرا. وللعبقري حياتان إحداهما عادية يتعامل بها مع من حوله وأخرى خاصة يمارسها إذا جلس مع نفسه، ويقوم بالاستغراق في فكرته ومنتجه بشكل يشبه الصوفي في تعبده. أكثر أفكار العباقرة تأتي تلقائية حيث يؤكد إينشتاين أن %99من الإبداع إلهام ولعب والباقي عمل وجد، والعبقري قادر على التحرر من كثير من العقد النفسية والعادات الاجتماعية، وهو ينبذ التقليد الأعمى والأنماط والقوالب المتشابهة، و هو في العادة يهمل مصالحه الذاتية ومطالبه المادية على حساب المجال الذي يستغرق فيه، وفي الغالب لا يفهم الناس ولا يفهمونه، وهو إنساني الطبع ويشعر أن له رسالة يؤديها ولا يبالي بما يصيبه من أذى المقلدين حتى ولو كلفه ذلك حياته. العباقرة لا يستسلمون لمتطلبات وقيود التخصص العلمي والأكاديمي فنجد أناسا من أمثال الغزالي وإينشتاين ودافنشي برعوا في كثير من المجالات لأنهم أدركوا وحدة العلوم وتكاملها وأقبلوا عليها بحماس واندهاش. ويؤكد كثير من الباحثين أن العبقري يصاب بالمرض النفسي والاضطراب إذا عجز المجتمع عن استيعاب أفكاره وعجز عن التعامل معها بإيجابية. والعباقرة موجودون في المجتمعات المدنية الحديثة أكثر من المجتمعات البدائية لعدم ارتباط المدن كثيرا بالمألوفات والتقليد التي تتميز بها المجتمعات البدائية. ما زال موضوع العباقرة ودراستهم، من المجالات التي تشهد تغيرا كل يوم مع وجود محاولات حثيثة لاكتشاف المزيد من هذا المنجم الإنساني العجيب. ويذكر المؤرخ أرنولد توينبي أن العباقرة هم أساس التقدم الإنساني ولولاهم لما وصلت البشرية إلى التقدم الذي يشهده العالم اليوم في كل المجالات.