فجر الاثنين الماضي توفي الأب الروحي لسنغافورة الحديثة لي كوان يو بعد مسيرة طويلة من العمل والإنجاز ، وإن اختلف الناس في تقييم الزعيم السنغافوري، إلا أنهم يتفقون على أنه شخصية عالمية غير عادية نقلت بلدها من طوابير الدول المتخلفة إلى منصات الدول المتقدمة، والتأمل في التجربة السنغافورية سيفتح الآفاق لتفكير مختلف في التغيير . الفكرة الأساسية التي أدار بها لي كوان يو الدولة السنغافورية هي "النخبة الحاكمة السنغافورية" التي تقوم على معادلة : (التقدم الاجتماعي مسؤولية "الأقلية المبدعة") وهذه المعادلة لها معطيات ثابتة في التالي : 1- تشكل الأقلية المبدعة. 2- طريقة عملها وتعاطيها مع المجتمع. وعندما نتحدث عن تشكل وإيجاد هذه الأقلية المبدعة التي ستحكم لاحقاً، فيأتي التعليم ليفك رموز الحكاية، فالتعليم المتطور جداً في سنغافورة هو ضرورة تنموية لاستخراج الأذكياء والموهوبين، وكل ما يحدث في التعليم السنغافوري هو عملية "فرز" متتال للمبدعين الذين هم في طور التأهيل لمسارات "النخبة الحاكمة". ففلسفة لي كوان يو قائمة على : ( إيجاد الموهوبين، وإعطاؤهم السلطة هو مفتاح الحكم الجيد ) ، وقد تكون هذه ترجمة عملية لأفكار المؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي في علاقة الأقلية المبدعة مع المجتمع. وعندما نتحدث عن طريقة عمل هذه "الأقلية المبدعة" بعد تحولها إلى "النخبة الحاكمة" في سنغافورة فهي تعمل على مسارين متوازيين : المسار الأول: يتلخص في قانون "حكم الأكفأ" بمعنى أنها أصبحت نخبة بالكفاءة وليس بالأقدمية أو الولاء، وأهم واجبات هذه النخبة الحاكمة الدفاع عن "الكفاءة" الذي أوصلها إلى إدارة الدولة، لذلك وصول سنغافورة لصدارة العالم في الشفافية كان نتيجة لفلسفة "الكفاءة" ولم تتحقق، لأن سنغافورة كانت تستهدف المراكز المتقدمة في الشفافية. المسار الثاني للنخبة الحاكمة : يكون في الهيمنة على الإدراك الاجتماعي، وهنا ما يميز لي كوان يو عن غيره، فالآخرون يريدون فرض رؤيتهم على المجتمع، وهو كان يهدف إلى هيمنة "الأقلية المبدعة الحاكمة" على "الأكثرية المجتمعية" عن طريق إقناع وكسب "أكثرية الأكثرية" وبعدها يسهل فرض وتطبيق الرؤية المعتمدة على "أقلية الأكثرية". والنسب الساحقة المتتالية في البرلمان لصالح حزب العمل الشعبي الحاكم من عام 1959 حتى اليوم تجعلنا نقول : إن زعيمه لي كوان يو نجح في تطبيق فكرته التي تهيمن ولا تفرض. لي كوان يو نجح في السياسة، لأنه اهتم بالاقتصاد أكثر من السياسة، ونجح في الحكم، لأنه اهتم بالتعليم أكثر من نظام الحكم، ونجح في مركزية الدولة، لأنه جعل التكنوقراط الحاكمين هم الذروة الحقيقية للمجتمع. التوقف عند لي كوان يو يجعلنا نفكر بعمق.