لم أنس تلك الليلة! ليس بالضرورة من يجيد الكلام يحسن العمل، ولا كل من صمت فقير في العمل والتفاعل، كذلك ليس كل من نظر إليك يحس بألمك، ولا كل من كان بعيد غفل عنك وأخرجك من دائرة الاهتمام؛ يمر بالإنسان عشرات المواقف، المفرحة والمؤلمة، وتبقى ذكرياتها في الأذهان، وقد تغيب تفاصيلها، لكن الأطول فيها بقاء؛ هم الأشخاص الذين كانوا أبطالاً في مسرحها! ولقد مر بي من ذلك، فمستقل ومستكثر، والناس من حولك طاقات وقدرات، فبعضهم يسعفك وبعضهم يعنفك، والبعض يفرحك، ومثلهم من يجرحك، وقد يوجد من يحس بك، ويوجد من لا يهتم بك، وهكذا.. ويبقى من هؤلاء من يمنحك الشعور ولو عجز اللسان، ويشاركك الفرح والأحزان، ولو تباعدت الأبدان، مجرد نظرة منه لوجهك وعينيك يفهم خريطة مشاعرك وأفكارك، ويحس بآلامك ويعرف آمالك، فعلاً إذا كنت تملك أصدقاء صادقين فأنت غني! مرة قبل 24 عاماً.. مر بي ظرف طارئ أحوجني لبعض المال، فذكرت ذلك لثلاثة أصدقاء فضلاء.. اثنان تكلما ورددا بعض الكلام بالوعد الحسن وثالث سكت ونظر لي متفكراً مستفهماً، متألما من الطلب، ثم انفضوا، قبل مغادرتهم التفت إليّ الثالث؛ قائلا: كم حاجتك؟ قلت 30 ألف ريال. قال: حسنا.. وانصرف، خلدتُ بعد ذلك للنوم.. ثم قمت لصلاة الفجر، وبعد الصلاة وأنا بالبيت ولتوي دخلت وإذْ بطارق يطرق الباب برفق، فتحت الباب فإذا هو صديقي عبدالرحمن "الساكت البارحة" المتكلم بعمله فجراً.. وإذ معه كيس فيه المبلغ المطلوب كاملاً، فدفعه إليّ، فرفضت قبوله لعلمي بوضعه الاقتصادي، لكنه بشرني بتيسيرها من الله وألح عليّ بأخذها ولو كقرض، فلما مر عدة أشهر، تيسرت الأمور فذهبت إليه لرد المال، وسألته عن مصدر المال؟ وكيف أتاه فرفض، وتحت إلحاحي، أخبرني بأنه استقرضه قبل عدة أيام من قريب له لشراء سيارة، لكنه لما رأى حاجتي تلك الليلة، لم ينم ليلتها حتى أتى بها إليّ فجراً.. فأقرضني ما استقرضه وأجّل شراء السيارة!! تعجبت من فعله! كم من الصامتين وقت الأزمات يعملون؟! هذا الصديق كان ليلة حديثي متعة المجلس ونديمها.. فلما ذكرت أمري علاه الصمت.. وأعرف مثل هذه الشخصيات المتوقدة الملتهبة إذا صمت لسانها وقلت حركة جوارحها.. فمشاعرها تعمل بأقصى طاقتها "غالبا"، وهذا الشخص هو من هذه النوعية، والعملة النادرة.. ما أجمل آثار مثل هؤلاء في الدنيا، أما في الآخرة فلهم الأجر الكبير، تأملوا أثر الإحسان في هذا الحديث بعمل قليل ولابنتيها فكيف للآخرين «فقد ثبت في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتْ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ». وكان لي مع هذا الصديق بعد ذلك لقاءات وأحداث وسوالف وأسرار.. وتخرجنا.. فصرت دكتورا في علم النفس.. وهو دكتور في الصيدلة.. مرني كثيرا.. وهاتفني أكثر.. وفزعت معه.. لمهمات كثيرة.. وشد من عضدي في مهام كبيرة.. حاولت أن أغلبه بأمور لم يغلبني عليها.. حاولت وحاولت.. وكلها تتماثل فيما بينها.. لكنني عجزت أن أغلبه وأسبقه على موقف تلك الليلة.. فلقد أنفق من قل، وقدمني على نفسه.. تلكم روح الصديق.. ذي الشعور الرقيق الرفيق.. يحس بنبضات الفؤاد.. ولو لم ير الجسد.. ويقرأ العيون.. ولو لم يبن اللسان.. فإذا ظفرتَ بذي الوف *** اء فحُط رحلكَ في رِحابهْ فأخوك مَن إن غاب عن *** ك رعى ودادك في غيابهْ وإذا أصابك ما يسوءُ *** رأى مصابكَ من مصابهْ ونراه يَيْجَعُ إن شكوتَ *** كأن ما بك بعض ما بهْ لقد مرت بهذا الصديق الشاب الهميم الحوادث.. حتى تعاظم معه مرض «الرحمة» فمات في زهرة الشباب، وعمره 38 عاماً.. وبصماته وآثاره بقيت في النفس رغم انتقاله منذ ستة أعوام، ذاكم هو الصيدلي الشاب المسلم أبو أنس «عبدالرحمن بن صالح الحميدان» رحمه الله. أستاذ التوجيه والإرشاد النفسي بجامعة القصيم