عندما تلتفت حولك لا تسمع إلا القتل والحرق والتدمير الذي يصيب الحرث والنسل، وتتأسف وتحزن عندما تجد أن هذه التصرفات اللاإنسانية تصدر ممن يتسمون بالمسلمين. إن ما يجري من حولنا يجعلنا نستغرب ونتعجب ونتساءل، هل هذا هو الاسلام الذي تعلمناه؟ وهل هذه هي أخلاق المسلمين؟ وهل ما يرتكبه القلة من سفك للدماء وأهوال يعجز القلم عن كتابتها حتى لو كانوا في حال القتال، هل هي من الإسلام في شيء؟ لقد حزنتُ عندما سمعتُ أن بعضا ممن أعرف من المسلمين الإنجليز قد ارتدَّ مؤخراً عن الاسلام، وتساءلت هل هو بسبب تصرفات الجهلة من المسلمين وما ينقلونه من صور خاطئة عن الإسلام؟ ولو أننا عُدنا لتاريخنا الاسلامي لوجدنا أن المسلمين كانوا مثالاً في حسن التعامل وقِمة في أخلاقهم وحفظهم للعهد أثناء السلم والحرب على حد سواء. كثير منا لم يسمع عن العهدة العمرية؛ وهي كتاب كتبه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لأهل إيلياء (بيت المقدس) عندما فتحها المسلمون عام 638 للميلاد، والعهدة العمرية هي دستور متكامل لما يجب أن يكون عليه المسلم وتعكس صفات المسلمين في السلم قبل الحرب، وإني أتساءلُ لماذا لا ننشرُ بل نُدرس ُ العهدة العمرية في مدارسنا ليقرأها المسلم قبل أن يقرأها غير المسلم ليعرِف أخلاق الاسلام وما يجب أن يكون عليه المسلمون. هذه الوثيقة التاريخية التي أمّن فيها الخليفة الفاروق، النصارى من أهل المقدس على كنائسهم وممتلكاتهم، ولقد اعتبرت العهدة العمرية واحدة من أهم الوثائق في تاريخ القدس وفلسطين وأقدم الوثائق في تنظيم العلاقة بين الأديان. ويُقال إن الكتاب العمري (العهدة) لا يزال موجوداً ومحفوظاً في بطريركية الروم الأرثوذكس (كنيسة القيامة) في القدس الشريف. أما نص العهدة، فهو كما جاء في الطبري (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبدالله عمر، أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم الله أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانها وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل ايلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت(ص) فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. من أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم و يخَلِي بيعهم وصلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعِهم وصلُبِهم إلى أن يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطَوا الذي عليهم من الجزية. وختم عمر الكتاب، ثم أشهد عليه: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبى سفيان، وكُتِب وحضِر سنة خمس عشرة). إنها لوثيقة عظيمة ومهمة يجدر بنا ان نتأملها لنعرف عظمة ديننا لكن لماذا شَهِدَ على هذه الوثيقة العمرية الكريمة بالذات أربعة شهود؟ والمعاملات الاسلامية تثبت صحتها بشاهدين اثنين، أما هذه العهدة فلقد شهد على صحتها أربعة رجال من خيرة صحابة رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فماذا يعني ذلك؟ ثم لم يكونوا أي شهود، بل إن أحد الشهود هو من العشرة المبشرين بالجنه، والآخر لقبه الرسول الكريم ب «سيف الله المسلول» وعمرو بن العاص هو أدهى دهاة العرب في عصره، حتى إن الخليفة عمر بن الخطاب لقبه بأرطبون العرب، وأما معاوية بن أبي سفيان فهو أحد كتبة رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. الأهمية التي حظيت به تلك العهده العمرية - يا سادة ياكرام- لم تأت من فراغ، بل هي لأهمية المكان الذي سيُسلم إلى خليفة رسول الله الفاروق عمر بن الخطاب وماله من مكانة عظيمة في قلوب المسلمين وهو المكان الذي احتضن في جنباته المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين ومسرى رسولنا الكريم وثالث مسجد في الإسلام تشد إليه الرحال، ولكن يا للخزي، فرطنا فيه وتركنا اليهود يسكنون بيت المقدس ومكنّاهم من أن ينقضوا العهدة العمرية. * استشاري كلى ومتخصص في الإدارة الصحية