اخترت أمس بعض ما قال القرآن الكريم عن مريم وعيسى والنصارى، وأكمل اليوم بعهود الأمان بين نبي الله والفاروق عمر وبين المسيحيين، فلا أحد أكثر إسلاماً من محمد وعمر، وأعتذر مرة ثانية أو ثالثة عن «بيع الميّه في حارة السقايين»، فتسعون في المئة من العرب، وبالتالي من قرّاء جريدتنا هذه، مسلمون، وأنا أروي لهم عن دينهم، والسبب أن الإرهابيين يدّعون الإسلام وهو منهم براء، وجرائمهم تفيد أعداء المسلمين وحدهم، وتضعف شوكة الغالبية العظمى الوسطية المعتدلة من المسلمين. المسيحيون في الحبشة احتضنوا المهاجرين الأوائل وساعدوهم، ورأي عمر بن الخطاب في هؤلاء المهاجرين معروف، فقد قال إنه لا يساوي بين من هاجر الهجرتين وصلّى الى القبلتين، ومن أسلم عام الفتح خوف السيف. المسيحيون انتصروا للمسلمين الأوائل قبل الأنصار في المدينة، ورسول الله أدرك أهمية أن يكونوا مع المسلمين بعد معركة مؤتة (الكرك) التي كادت تنتهي بكارثة لولا أن أنقذ خالد بن الوليد الموقف بالانسحاب، وهو اتصل بنصارى العرب وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، وكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم هذه آمنة من محمد النبي الى يحنّه (يوحنا) بن رؤبة وأهل آيلة (العقبة) سفنهم وسياراتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر». ونبي الله كتب كتاباً مماثلاً لأهل جرباء وأهل أذرح من النصارى بعد أن عسكر جيش المسلمين في تبوك. وقرأت خطبة لعمرو بن العاص يوصي فيها المسلمين خيراً بالأقباط الذين ساعدوه ضد بيزنطة في فتح مصر. ثمة كتب كثيرة عن النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكلها تُجمع على أن المسيحيين العرب قادوا الفكر النهضوي، وكانوا أول من حرض على الدولة العثمانية المنهارة، ولم ينضم إليهم المسلمون العرب إلا بعد أن خذل مصطفى كمال (أتاتورك) المسلمين العرب بسياسته الطورانية التركية. غير أنني أريد أن أبقى مع القديم، فهو من عصر فترته الزمنية قصيرة إلا أنها كانت حافلة بأمجاد عربية وإسلامية حقيقية، وليست من نوع «التاريخ المجيد» التالي الذي أراه انتقائياً لا يذكر التقصير والعيوب. كان الغساسنة العرب يحكمون من الجولان أجزاء من بلاد الشام بينها ايلياء، أو بيت الإله، القدس، والنابغة الذبياني قال: «محلتهم بيت الإله ودينهم/ قويم فلا يرجون غير العواقب». وكانت مملكتهم بدأت تضعف وتتراجع، وكان ما كان من معركة اليرموك، وخروج الروم من بلاد الشام. ودخل عمر بن الخطاب القدس في 17 هجرية (638 ميلادية) وصالح أهلها وتسلّم مفاتيح المدينة من البطريرك صفرونيوس ولقبه «حامي الكنيسة لسان الذهب». عمر بن الخطاب رفض أن يصلي في كنيسة القيامة، خشية أن يحولها المسلمون الى مسجد، وصلى قربها، حيث يقوم مسجد عمر الآن (وهو غير المسجد الأقصى). وعندما رأى نصارى القدس على خلافٍ، سلّم مفاتيح كنيسة القيامة لأحد رجاله، والمفتاح لا يزال عند أسرة نسيبة المسلمة الى يومنا هذا، ثم يأتي مهاجر خزري محتال من أوروبا الشرقية ويقول «بلادي». العهدة العمرية سبقت ميثاق جنيف الرابع عن معاملة المدنيين وحمايتهم في زمن الحرب، وأراها مثل الميثاق أو أفضل، وهي تسبقه ب 1400 سنة. العهدة تقول: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبدالله، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبارئها وسائر ملتها، انه لا تُسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من خيرها، ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم ولا يُكرَهون على دينهم ولا يُضارّ منهم ولا يسكن إيلياء أحد من اليهود (هذا بطلب من البطريرك). وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا الروم منها واللصوص، فمن خرج منها فإنه آمن على نفسه وعلى ماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله الى الروم ويخلي بيعهم وصلبانهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع الى أهله لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. [email protected] - عيون وآذان (المتطرفون في قلوبهم زيغ)