يقول الله عز وجل: «وَجَعلْنا الليْل والنهَار آيتَين فَمَحوْنَا آيةَ الليلِ وجَعَلنَا آيةَ النهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبتغُوا فَضْلاً مِنْ رَبكُم وَلِتعْلَمُوا عَددَ السنِين وَالحِسَاب وَكُل شَيءٍ فَصلْنهُ تَفْصِيلاً» آياتٌ كثيرةٌ تناولت آيةَ الليل وآية النهار فلكل منهما خاصية تختلف بها عن الأخرى، فإن ما تفعله في النهار قد لا يكون مناسباً أن تفعله ليلاً، فليس من المستساغ -مثلاً - أن تفتح دكانك لتبيع بضاعتك إذ أن عملاءك كلهم نائمون! في وضح النهار كلنا متشابهون، كلنا موظفون، كلنا آباء وأمهات، كلنا طلبة ومعلمون، كل النساء ربات بيوت، وكل الرجال قوامون كادحون. في وضح النهار كلنا على مسرح الحياة واقفون، نؤدي أدوارنا بتفانٍ شديد ونجتهد لنكون الأفضل، أما في سكون الليل فنحن مختلفون تماماً، ننزع الأقنعة من على وجوهنا وكذلك نتجرد من أزيائنا الرسمية فهي لا تصلح أبداً أن تستمر معنا في جوف الليل. في سكون الليل نرى الناس أصنافاً وأجناساً، ولكل منهم حياته الخاصة التي لا يعلم بها إلا الله وحده عز وجل. في سكون الليل هناك من يتوسد مخدته هانئاً مطمئناً يتطلع إلى صباحٍ مشرقٍ بأملٍ باسم. في سكون الليل هناك من أغلق على نفسه بابه وجرت دموعه أنهاراً على فراق عزيز أدمى مقلتيه وأحرق فؤاده جمراً. في سكون الليل هناك من بات يناجي ربه بكل الحب والعبودية التي تربطه بينه وبين خالقه. في سكون الليل هناك من الظلام ثلاثة: ظلام العيون وظلام العقول وظلام القلوب! فظلامُ العيونِ هي التي نامت هانئةً مطمئنةً ترجو من المولى غداً أكثر جمالاً وإشراقاً وعملاً، وأما ظلامُ العقول فهي التي ضَلت وأضَلت، فغاب عقلها (بفعلٍ) جعلها خارج حدود الزمان والمكان، غاب العقل وغابت معه كل القيم والمبادئ، فبات كالحيوان إن لم يكن أقل من ذلك! وهناك ظلامُ القلوب لأناسِ نُزِعت منهم الرحمة وحُرموا لذة الإيمان، وحُجِبت عنهم طاعة الرحمن فباتت قلوبُهم كالحجارةِ أو أشد قسوة «كلا بَل رانَ على قلوبهم ما كانوا يكسبون» في غشاوةِ طُمِست أعينُهم فتاهت قلوبهم في ظلام الليل الدامس! في سكون الليل هناك من بات يناجي النجوم والقمر ويبثها أشواقاً فوق أشواقه، ويُعاتبُ الليلَ إن حاول أن يُفشي أسراره فهو يهمس له: أيها الليل لقد أودعتك أسراري فلا تُفشها، وهو لا يدري أن لليل ألف عين وعين. في سكون الليل هناك غربةً تنزف دماً قد سطرت هذه الكلمات بريشةِ المغترب: - «هل يمكن للإنسان أن يعيش الغربة مع نفسه ومع من حوله، وأيهما الملام: هل النفس، أم المرء نفسه؟ عندما يشكو الواحد منا للآخر أنه يشعر بالغربة والوحدة ألا يعني هذا أنه يريد المزيد من الاطمئنان ومن الأمان الذي بدأ يُخيل إليه -حقيقة ًأم خطأً- أنه قد يفقدها شيئاً فشيئاً!! كلنا مهما كبرنا فإن مساحةً من الطفولية تسكن نفوسنا وقد تظهر في أي لحظة دون مقدمات ولا استئذان ولا حتى طرق باب! في لحظاتٍ نعبر عن مخاوفنا بطريقة الأطفال، فالطفل عندما يقول لمن حوله: (أنا لا أحبكم) فهو يعني أنه غارق في حب ذويه وأهله، بدليل أنه لا يقولها إلا وهو في حضن أمه! ولكنه يعني شيئاً آخر: (أنتم السبب في هذا الشعور فسارعوا إلى لملمة الجرح قبل أن يتسع)! فهل نسارع؟ أم أننا نزيد ضغطاً عليه حتى ينزف الجرح دماً ويزداد ألماً؟ ونلوم هذا الصغير على كلمة ليست هي مشاعره الحقيقية، ولكنه أراد أن يقول بها شيئاً ويهمس بها حنيناً! رجل يجوب المدينة وعاش فيها عمره ثم يقول: (كأني أشعر بغربة)!! من الملام يا ترى: هل هو ...أم أهل المدينة؟ نظلم أحبتنا إذا أرادوا أن يبثوا شكواهم ليلفتوا انتباهنا إلى شيءٍ من المخاوف يريدون بها المزيد من الأمن والأمان والاطمئنان، ولكننا -للأسف- قد نسيء فهمهم؟ في الختام :- «الغربة» شعور لا يظهر إلا إذا اشتد الحنين إلى الوطن!! * خبيرة إدارية - تربوية