قد يمر الواحد منّا بجوار أسوار المستشفيات ولا يلقي لما يدور بداخلها بالاً، وقد يسمع عن فلان الذي أدخل المستشفى «منذ فترة» وتمر هذه العبارة مرور الكرام على مسامعه دون أن يتفكر فيما يعيشه أصحاب الأسرة البيضاء من معاناة، ولا شك أن كبار السن ممن عركوا الحياة وحلبوا خلاصتها لديهم وانتهى بهم المطاف بين أيدي الممرضات والأطباء لهم الكثير والكثير من المشاعر التي تستحق أن تكون بمثابة الحكم التي يستفيد منها الأبناء . " اليوم" أرادت أن تقتحم أسوار المستشفيات وتدخل بعدستها لتكشف للقارئ الكريم عالماً من معاناة من يرقدون على الأسرة البيضاء ، ويتلحفون الألم ويقتاتون على بقايا الأمل، ويعيشون القناعة بما كتبه الله عزوجل لهم. العم علي صالح أحد الذين يعانون منذ أكثر من خمس سنوات من سرطان في النخاع، ويرقد في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام، كانت الابتسامة لا تفارق محياه وخصوصاً عندما علم أن " اليوم" قدمت لزيارته والاطمئنان عليه، يقول العم علي : أعاني منذ أكثر من خمس سنوات من بوادر وجود سرطان وبعد التحاليل والأشعة اتضح أنني مصاب بسرطان في النخاع الشوكي في الظهر، وقد تحاملت على الألم وحاولت أن أتناسى هذه المأساة لعل وعسى أن تتحسن صحتي، ويضيف قائلاً: في وقت سابق اشتدت علي المعاناة والألم وقررت الدخول للمستشفى لإجراء العملية إلا أن هناك معاناة أكبر ومصيبة أعظم أرادها الله سبحانه وتعالى لي .. هنا يصمت العم علي قليلاً، ليكفكف دموعه متذكراً ابنه الذي توفي في تلك الفترة جراء حادث مروري، ولكن الدموع تغلبه فيستسلم لها .. ثم يقول: لقد توفي ابني في ربيع عمره عندما عزمت على إجراء عملية لي مما جعلني أصرف النظر عن العملية مراعاة لواقعنا المؤلم جراء وفاة ابني، ولله الحمد على كل حال . ويضيف قائلاً: لقد مررت بتجارب مؤلمة سواء في تلقي خبر إصابتي بسرطان في النخاع الشوكي أو بعد وفاة ابني الذي وافته المنية في حادث مروري، ولم أجد أفضل وأصلح لحالي مثل الصبر، فطالما كنت أسمع عن الصبر عند المصائب ولا أعرف تفاصيل هذه العبارة، إلا أن الظروف، ولله الحمد، جعلتني أستشعر قيمة الصبر وأسلم أمري لله سبحانه وتعالى، فكم من مريض غيري يعاني أضعاف ما أعانيه، وكم من مريض غيري يعيش على الأجهزة الطبية، وكم من أب غيري فقد أسرته كاملة، وكم من حالات مرضية لم يعرف الأطباء لها علاجاً، ولا شك أن مريض السرطان يعاني من الآلام النفسية بقدر ما يعانيه من الآلام الجسدية، وهنا ينبغي أن نعرف نحن المرضى أن حكمة الله تعالى اقتضت أن نكون مرضى، وليس شرطاً أن نعرف الحكمة بقدر ما يجب علينا أن نؤمن بأن ما اختاره الله تعالى هو خير لنا وتكفير عن ذنوبنا، وعن الأيام التي يقضيها العم علي في المستشفى يقول : لا شك أن الصحة لا تقدر بثمن وأن العافية لا يعدلها شيء وأن يوماً يعيشه الواحد منا بين أسرته وأطفاله سليماً معافى لا يمكن أن تعدله كنوز الدنيا، فما بالكم بمن يعاني من السرطان وتحبسه الأمراض داخل أسوار المستشفى ولا يملك إلا أن ينظر من خلال نافذة المستشفى ليرى الحياة خارج أسواره ليعرف قيمة ونعمة الصحة والعافية التي منّ الله بها على الإنسان، وعن جدوله اليومي الذي يقطّع به ساعات النهار والليل داخل المستشفى يقول العم علي : أنا هنا أنام في غرفة خاصة ربما لظروف الكيماوي الذي أتناوله جهّز لي المستشفى هذه الغرفة، ولا أخفيكم سراً إذا قلت إن النافذة التي أطل من خلالها على خارج أسوار المستشفى تعد علاجاً نفسياً كبيراً لي، ولا أتخيل في يوم من الأيام كيف أعيش دون أن أجدد الأمل في حياتي من خلال الوقوف خلف زجاج النافذة متنقلاً ببصري بين ألوان الحياة خارج المستشفى وبعيداً عن الألم والمرض والحزن والمعاناة . أما المريض أحمد السعد، فيقول لا شك أن تجارب المرض وخصوصاً الأمراض المستعصية تعد محطة لكي يتفكر الإنسان في صحته وفيما منّ الله به عليه من خير مضيفاً أنه يرقد في المستشفى منذ أكثر من شهر، حيث أصيب بجلطة في القلب أثرت على حركته وجعلته يلازم السرير الأبيض للمتابعة ويقول: إنني أجد في مرضي أملاً كبيراً في الخير الذي ميزني الله به عن غيري، ويضيف قائلاً: وجودي في المستشفى يعتبر محطة لي للتفكر والتأمل ومراجعة النفس وهذا الذي ينبغي أن يكون حاضراً في ذهن كل مبتلى وكل مريض وأنا قنوع تمام القناعة وراض تمام الرضا بما قسمه الله لي من المرض، ويضيف أنني مؤمن تمام الإيمان بأن ما كتبه الله عزوجل لي هو خير، ولا شك أن ما أجده من منسوبي المستشفى من الرعاية والاهتمام والحب والتقدير يجعلني أكثر تقبلاً لوضعي ويشعرني بالراحة والاطمئنان . أما العم خليفة الذي أجريت له عملية استصال ورم في الظهر، فيقول: الحمد لله على قضائه وقدره، ولا أخفيكم سراً أن دخول الإنسان في دهاليز الأمراض وانتظار النتائج وقلق التوقعات ليس بالأمر السهل، ولا يدرك هلا الكلام إلا من لامس الهم وعاش الخوف وبقي طريح الفراش، ولذلك أقول لكل من يقرأ هذه التجارب يجب عليك أن تحمد الله سبحانه وتعالى على نعمة العافية والصحة، وعن الزيارات التي يجدها يقول : تزورني أسرتي بشكل يومي ولا أبالغ إذا قلت إنني أشعر بوجودهم عندي بأنني في بيتي وبين أطفالي، وهذه اللحظات لا يمكن أن أنساها طيلة اليوم، بل إنني أترقب زيارتهم كل يوم وأسعد بالحديث معهم وما أن يحين وقت انتهاء الزيارة حتى تغالبني دموع الحزن وتجيش بخاطري مشاعر الألم وخصوصاً إذا أقبل الليل وسكنت الحياة وبقيت أنا والذكريات الماضية والمرض نتسامر إلى ساعات متأخرة من الليل، مما يجعلني أبكي كثيراً وأقاوم مشاعر الحزن بركعتين في جوف الليل يفتح بها الله عزوجل لي آفاق الحياة ودنيا أخرى من التفاؤل والرضا الذي يقودني إلى القناعة والسعادة وخصوصاً إذا ما قارنت حالتي بالكثير والكثير من المرضى الذين يتجرعون طعم الموت كل يوم دون أن يموتوا لحكمة بالغة أرادها الله عزوجل لهم . رحلة أخرى مع المرض، ورؤية مختلفة للحياة يطلعنا عليها العم معتوق الحميدي، الذي لازم السرير الأبيض فترة من الزمن، تعلّم خلال هذه الفترة الكثير والكثير من معاني الصبر، لم يستسلم للمرض فقد تفاءل وفوّض أمره إلى الله منذ أن كتب له الأطباء إلزامية التنويم، يقول العم معتوق : رحلة المرض رحلة مؤلمة فيها الكثير من التجارب ولا يمكن أن يعرفها إلا من عاش فترة من الزمن بين أحضان الألم وتحت وطأة الخوف، ويضيف قائلاً : الذين يعيشون خارج المستشفى لا يمكن أن يشعروا بحجم الألم الذي يعانيه المريض، وعن اللحظات التي يتمنى ألا تعود يقول : بلا شك أن لحظات انتظار نتائج التحاليل تعد لحظات عصيبة على المريض فهو ينتظر أن تأخذ صحته منحى آخر سواء في إجراء عملية ربما تكون خطيرة ، أو في الدخول إلى عالم آخر من الجرعات الطبية التي تختلف عن سابقاتها، وهذا ماحصل لي عندما قام الأطباء بإجراء تحاليل لي حيث اشتبهوا بوجود ورم في المعدة وأخذت التحاليل فترة من الزمن وأنا وأسرتي في انتظار نتائج هذه التحاليل ويضيف : ولعل هذه الفترة التي ينتظر فيها المريض المصير الجديد تعد لحظات مؤلمة كونها تمثل له الوجه الآخر للحياة التي سيقضيها، ولعل البشائر التي زفها له الطاقم الطبي بسلبية النتائج وخلوه من المرض تمثل له ميلاداً جديداً وتضيف له نكهة مختلفة للحياة ،حيث يقول معتوق : منذ أن زف لي الأطباء خبر تحسن صحتي وخلو العينات من المرض وأنا أعيش فرحة غامرة ، ذلك أن صحة الإنسان لا يمكن أن يعدلها شيء، وعن الحياة داخل المستشفى وبين المرضى يقول معتوق : لا يخفى على الجميع أن حياة السرير الأبيض حياة مخيفة ولحظات انتظار المستقبل الخفي لحظات يلفها الرعب، ولا أشد إيلاماً على النفس من قضاء ليلة في المستشفى، فحين يلف الصمت ممرات الأقسام داخل المستشفى ويُطبق الظلام على المرضى، يعيش الواحد منا لحظات تأمل لا سيما إذا ما كان بجواره مريض يتألم طوال الليل، أو يسمع تأوهات المرضى في الأقسام الأخرى، فهذا باختصار مشهد الليل الذي يعيشه المريض في المستشفى . أما العم دخيل محمد، فهو يعاني من سرطان في المثانة، ولا شك أن كلمة "سرطان" مخيفة لكل من يسمعها، فكيف بمن يعاني من هذا المرض! ولم تقف معاناته عن حد الإصابة بالسرطان، فقد أخبرنا بأنه يعاني من أمراض أخرى من أبرزها مرض القلب، ولم يقل ذلك تضجراً وسخطاً، بل يغلب على حديثه التفاؤل والصبر، حيث قال : لا يعلم الكثير أنني أعاني من مرض القلب، فأنا قنوع بما ساقه الله تعالى لي من ابتلاء مؤمن بأن الخير فيما اختاره الله عزوجل. العم دخيل، أسلم أمره لله تعالى ودخل المستشفى بعد أن قرر له الأطباء إجراء عملية جراحية على وجه السرعة متمثلة في استئصال الورم من المثانة. يقول العم دخيل : كنت أعلم منذ فترة سابقة بأنني مصاب بالسرطان وأجريت العديد من الفحوصات التي أكدت إصابتي بالمرض وضرورة التدخل الجراحي لاستئصاله حتى لا يستشري في كامل المثانة، وقبل يومين أجرى الأطباء في المستشفى لي عملية جراحية استأصلوا فيها الجزء المصاب، وعن مشاعره التي حملها معه إلى غرفة العمليات يقول العم دخيل : عن أي مشاعر أحدثكم وأنا ذاهب إلى غرفة العمليات ! وأي رهبة يعيشها المريض وهو داخل إلى منعطف خطير في حياته ! ولا شك أن الإيمان القوي بالله سبحانه وتعالى هو العلاج النفسي الأعظم الذي سيخفف من الرهبة، وسيربط على قلب المريض، ويضيف قائلاً : للصحة قيمة كبرى لا يدركها إلا من دخل في دهاليز الأمراض وعاش لحظات الخوف وتلحف بالقلق ومكث فترة من حياته بين أقسام المستشفى منتظراً لحظة الصفر التي تحمل له الجديد في حياته، ويضيف قائلاُ : نحن في نعمة عظيمة لا نشعر بها إلا إذا فقدناها ومهما قدم المستشفى من خدمات وتميز في تقديم الرعاية سواء أكان في داخل البلاد أو خارجها في أرقى المستشفيات المتخصصة فإنها لا تغنيه في نسيان لحظات الألم، عن حالته بعد إجراء عملية استئصال ورم المثانة يقول : ولله الحمد والمنة، فقد تحسنت حالتي كثيراً وطمأنني الأطباء بنجاح العملية وأخبروني بأن نتائج الفحوصات بعد العملية جيدة ومبشرة بخير، ولا شك أن هذه البشرى التي يزفها لي الأطباء وفي هذه اللحظة هي من أسعد البشريات ومن أجمل اللحظات ، ويضيف قائلاً: هناك أمر يجهله الكثير منا ألا وهو الإيمان بالقضاء والقدر، فرغم أنه ركن من أركان الإيمان إلا أن الكثير منا يجهل أهميته، ولا يمكن أن يعرف إيمان المرء بالقضاء والقدر إلا عن المصائب وفي أوقات الشدائد، فأنا رجل مسن أصبت بالسرطان وأجريت عملية لاستئصاله وفوق ذلك فأنا لدي مشاكل صحية أخرى من أبرزها مرض القلب ولدي قناعة تامة بأن الإنسان لن يموت قبل يومه ولن يصيب الإنسان إلا ما كتبه الله عزوجل له، لذلك يجب أن يكون هناك مجال للتفاؤل ومكان لحسن الظن بالله تعالى، ومن خلال تجاربي مع الأمراض فإن الإيمان بما كتبه الله للإنسان من أهم الأسباب التي تجعل الإنسان المسلم متقبلاً لواقع المرض، بل وتخلق في نفسه جوانب مهمة من التفاؤل المنطلقة من حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وإنني أقول لكل من أصيب بمرض السرطان: إن العلاج النفسي الأكثر نفعاً هو حسن الظن بالله تعالى والفأل الحسن، مضيفاً أن التشاؤم والقلق الزائد والخوف من المجهول قد تشكل حاجزاً سلبياً يقف دون التقدم في العلاج، وختم دخيل حديثه بنصيحة لكل من ابتلي بمرض بألا يترك المرض يزيده ألماً على ألمه، وأن يبادر بالكشف الطبي ولو بشكل دوري حتى يتلافى ما قد يحدث من مضاعفات سلبية جراء اكتشاف المرض في وقت متأخر، وأضاف بأن التشكي والتضجر من الأمور التي يقع فيها المرضى وهي لا تقدم أي شيء في العلاج بل تخلق بيئة نفسية سلبية لدى المريض ولدى الطاقم الطبي المعالج . العم علي يتحدث عن تجربته مع المرض جناح يحتوي على مرضى من جيران العم علي دخيل يشرح مشاعره لحظة دخوله غرفة العمليات