تعرّفت إلى عابد خازندار عام 1986، حيث كنت يومها طالبا في باريس، ودعيت للمشاركة في مهرجان الجنادرية الثاني، وهو المهرجان الأهم حيث دشن الحراك الثقافي في المملكة حينها، وحينما التقينا في بهو الفندق وفي مجالس بعض الأصدقاء، دهشت أن هذا الرجل الهادئ الأنيق يحدثني عن تودوروف ورولان بارت وجاك دريدا، وقد كنت أحضر دروسهم في السوربون، سألته حينها: ومن أين لك هذا؟ وأعني: كيف له أن يتابع مثل هذه الأمور وهو في السعودية؟! فأخبرني أنه يقيم في باريس لفترات طويلة كلّ عام، وبعدها أدركت أنه يتكلم الفرنسية ووقع في الفخ الذي كنت أرقص فيه، أعني الثقافة الفرانكوفونية. تحدّثنا حينها طويلاً عن قضايا الحداثة التي تحوّلت من جدل فكري إلى عراك أيديولوجي؛ بسبب الجهالات وكراهية كل علم جديد وكل فكر حديث وفن حديث، وقيل لنا حينها إن هناك مصالحة تدور بين الخصوم، وأن علينا أن لا نوسع الجرح وقد تكاثرت ضحاياه، بعدها حرصت كثيرا على متابعة هذا الإنسان الهادئ الأنيق في ذاته وكتاباته، وكلما كنت أزور باريس كنت أحرص على لقائه والحديث معه لكن العلاقة العائلية توطدت فيما بيننا خلال العام الدراسي 2007/2008، حيث كنت أستاذا زائرا في جامعة السوربون التي فيها درست ومنها تخرجت. وسمحت الفرص حينها أن نقضي أوقاتا أطول في شقة المرحوم الباريسية الأنيقة كروحه، معه ومع زوجته الفقيدة شمس وبنتيها العزيزتين. قبل سنتين عدت إلى باريس كما تعودت كل صيف، فإذا بمن يخبرني أنه مريض، فسارعت إلى زيارته في شقته نفسها لأجد صديقي في ذروة التألق الذهني وفي قاع الوجع الجسدي، وأشهد أنني قد رأيت فيه لحظتها صورة مغايرة نبيلة، تحامل على نفسه ونزلنا إلى مطعم بجوار الشقة المطلة على غابة بولونيا، وشعرت أن زيارتي له والحديث معه حول قضايا الفكر والفنون قد أنعشت روحه الخفية، أو روحه الأصيلة، وكم كانت فرحة غامرة أن يخرج من شقته متكئا عليّ وعلى زوجته وأن يخرج من المطعم وهو يصر أن يمشي وحيدا كرمح يحلم باصطياد نجمة ما. ولعلّ من أجمل الذكريات وأعلاها مقاما حين شاركنا معا في وفد إلى معرض ألكتا في فرانكفورت لألتقي به في المساء في فندق هادئ منعزل. وفي اليوم الثاني أسأل عنه فإذا به قد غادر الوفد احتجاجا على التمييز الساذج بين الموظفين والمثقفين، وحينما ناقشته في الأمر لاحقا خلال أمسية باريسية في شقته ذاتها وجدته يتحدث عن المبادئ الكبرى التي يفترض أن تحكم كلام المثقف وسلوكه، ويستشهد بسارتر الذي شارك في الثورة الجزائرية، وحينما صدر أمر باعتقاله رفض شارل ديغول أن يوقعه، وقال كلمته المشهورة: "لا أستطيع أن أعتقل ضمير فرنسا". هنا سأختم بقولي: إن عابد خزندار الذي عاش في المنفى الاختياري طويلا هو من أجمل وأنبل ضمائر هذا الوطن، فتعازيَّ لأسرته وذويه ومحبيه وقرائه، وتعازيَّ لي.