رغم وضوح الأدلة العقلية التي تثبت وجود الخالق وكثرتها، إلا أن الإلحاد كان له نصيب من ذرية آدم مما يستوقف كل سويّ يتساءل فيها بغرابة عن بواعث الإلحاد في العقول والنفوس البشرية وتزداد الغرابة والدهشة حين تجد الملحد يزهو بعقله ويتباهى بفكره الملحد، رغم كل ما في هذا الكون من أدلة عقلية تشهد بأن لهذا الكون خالقا عظيما، كم هي البراهين الواضحة على ذلك في علم الكون المشاهد فضلا عن دليل إجماع الأمم ودليل النظام ودليل الحدوث ودليل السببية ودليل العلية ودليل الغائية ودليل الفطرة السوية ودليل الغريزة الدينية التي كلها تؤكد أن لهذا الكون خالق عظيم. لقد تميز الإنسان بالعقل ليستقرئ آيات الوجود الأعلى من جولان فكره في نواحي الكون كله، وليبني إيمانه على اليقظة العقلية والحركة الذهنية المدركة للحقائق. فإعمال العقل للوصول إلى المعرفة وإدراك الصواب والوصول إلى اليقين هو الطريق الواضح إذا لم يتبع الإنسان التساؤلات الخارجة عن نطاق الإدراك العقلي. إن في الحياة، أشياء نشعر بها وإن لم نلمسها حسيا، ونؤمن بوجودها وإن لم نرها، وإنما سمي العالم عالما لكونه علامة ظاهرة على وجود الخالق. فالجاذبية مثلا، ندرك وجودها بإدراكنا للأفعال الدالة على وجودها مع أننا لم نرها لأنها ليست مرئية لنا ولكننا ندرك الأثر الدال على وجودها، فرؤية الإنسان للثبات في الكون ونظامه ورؤيته الاستمرارية والحركية فيه، تدل بوضوح أن الكون بحاجة إلى قوة أخرى خارجة عنه، هي قوة الجاذبية التي تربط بين هذه الأكوان، وتحافظ على استمرار ثباتها واستمرار حركتها المنظمة الدائمة، مع أن الأرض تسير بسرعة هائلة وقوية ومحمية بغلاف جوي يحميها ويتحرك معها. ورغم الاحتكاك فإنها تظل على نفس تسارعها، مما يشير إلى أن في الكون نظما، لها قوانين لا تتبدل ولا تتغير منذ بداية الوجود، منها قانون الجاذبية الذي يعمل على تجميع شتات الأجزاء المادية المتقاربة في أبعاد دقيقة محددة، بقوة تزيد أو تنقص حسب الكتلة والمسافة بينهما، ولولا قوة هذا القانون لسقطت الكائنات في هاوية الفضاء. فالأجرام السماوية لها قانون يحفظ تماسكها وانتظامها في مداراتها، وأي قانون قد يكون قابلا للتعديل أو التغيير إلا القوانين الإلهية ثابتة ومستمرة الوجود، وهذه القوانين موجودة وموضوعة مسخرة للإنسان ليستغلها ويستفيد منها كما قال تعالى ممتنا :(وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). إن هناك الكثير من الموجودات التي نشعر بأثر وجودها ولا ندركها بحواسنا المباشرة، لأن قدرات الإنسان وحواسه وخواصه محدودة لا تدرك كل موجود بصورة مباشرة، فالإنسان مثلا يتنفس الأوكسجين وهو غاز غير مرئي، واستمرار عملية التنفس مرئية يُستدل بها على وجود الأوكسجين في المحيط الذي تستمر فيه عملية التنفس. وتوقّف عملية التنفس يُستدل بها على عدم وجود الأوكسجين في ذلك المحيط مع أننا لا نرى الأوكسجين نفسه، إلا أن عدم رؤيتنا للأوكسجين ليس دليلا على أنه غير موجود، لأن الأثر الدال على وجوده قائم وهو الدال على وجوده وليست الرؤية له، فالعاقل يدرك حقيقة وجود الذوات غير المحسوسة بدلالة الأثر الناشئ عنها. إن كل عاقل يدرك حقيقة وجود ما لا يُرى أثره كالروح والموت ونحوهما، أما من حاد عن طرق الاعتبار بتأثير الموجودات غير محسوسة، فإنه لن يقيم وزنا لإثبات وجود غير المحسوس بأثره لأنه حصر إدراكه في الحس المباشر لذوات الأشياء، مع أن هناك موجودات لكنها خارجة عن نطاق الحس المباشر. إن أعظم الحقائق وأجلّها في الفطرة والعقول حقيقة وجود الخالق، هذه الحقيقة التي اتفقت العقول على الاعتراف بها- وإن أنكرتها بعض الألسن ظلما وعلوا-، فهي من الوضوح بمكان لا تنال منها الشبهات، وبمنزلة لا يرتقي إليها شك. الباحث والمستشار بمركز علوم القرآن والسنة