يرى الكثير من علماء النفس المتخصصين في الأمور الأسرية، أن كلمة «عانس» تعتبر بمثابة نوع من العنف المجتمعي تجاه المرأة، وذلك نظراً لما تتركه هذه الكلمة من آثار سلبية مدمرة في نفس الفتاة. العنف الجسدي مرفوض؛ لما يسببه من أذى في الجسم ومعاناة، إلا أنه أخف وطأة على النفس من العنف المجتمعي، الذي يترك آثاراً في النفس لا يمحوها الزمان ولا المكان. لذا اقترح المختصون إلغاء كلمة العنوسة واستبدالها بمصطلح «تأخر سن الزواج». تبديل المسمى مهم، لكن الأهم منه وبالدرجة الأولى، تغيير نظرة المجتمع للفتاة التي فاتها قطار الزواج، والأهم من هذا وذاك لابد من معرفة أسباب المشكلة التي تؤرق الكثيرين من الأسر، والتي أصبحت شبحاً مخيفاً. من أهم أسباب المشكلة الفتاة نفسها، فالغزو الفكري الفضائي سبّب ارتفاع سقف طموحاتها وما ترسمه في خيالها الخصب من صفات لزوج الأحلام، الذي لا تكتمل فيه تلك الصفات إلا في أبطال المسلسلات والأفلام، صفات شبه مستحيلة على أرض الواقع. طموحات وأوهام ضعيفة ساعدت في وجود مكان شاغر للفتاة في طابور المتأخرات عن سن الزواج. ومن الأسباب أيضاً شرط إتمام التعليم، فالفتاة ترغب في إتمام دراستها التي قد تستمر حتى تصبح في الرابعة والعشرين من عمرها، وربما أكثر، وكل من تقدم لها خلال تلك الفترة لا يُقبل للشرط ذاته، والعمر يمضي والشباب يذبل والمتقدمون للزواج يفضلون ذات العشرين ربيعاً أو أقل. وهناك أسباب لا ذنب للفتاة فيها.. الجانب القبلي "الأسرة" والعادات البالية والتقاليد القديمة، "والأصيل والخضير" التي تنخر في جسد المجتمع المعاصر.. ولا ننسى العقدة الكبرى التي تسيطر على بعض الأفكار.. ضرورة أو وجوب تكافؤ المستوى الاجتماعي والمادي، والمشكلة الأكثر تعقيداً الشروط التعجيزية التي تفرض على الخاطب، وغلاء المهور في الدرجة الأولى، وقصر الأفراح والتكاليف الباهظة والمنزل وتأثيثه بالشيء الفلاني و... و... وطبعاً نتيجة كل هذه التكاليف يعزف الشاب عن الزواج، لأن ظروفه الاقتصادية لا تسمح، فما عليه إلا أن «ينفد بجلده» قبل أن يقع في متاهات لها أول وما لها آخر -وقصص أصدقائه المأساوية الذين سبقوه شواهد.. جبال من الديون تراكمت عليهم حولت حياتهم لجحيم، أقساط لا تنتهي والراتب تلتهمه الديون، وضيق الحال لا يعلمه إلا الله، خاصة في ظل الغلاء المعيشي. ومن الأسباب التي تقف في طريق زواج الفتاة، استغلال ولي أمر الفتاة مادياً، يرفض تزويج ابنته؛ ليستفيد من راتبها وتكبر الفتاة وتُقطف زهرة شبابها والمجتمع لا يرحم. ذكرت بعض الأسباب، أما الحلول فعلينا كمجتمع أن نكون منصفين وأكثر وعياً وثقافة فلا نظلمها، حُرمت المسكينة حقها الطبيعي في الحياة كزوجة وأم، فلا داعي أن تظلم مرتين بكلمة حتى وإن كانت كلمة عطف أو بنظرة شفقة، فلا يجب أن نكون والزمان عليها. الفتاة إنسان من حقها أن تعيش كإنسان كامل الحقوق والواجبات، وعدم استغلال ضعفها، لذا وجب تيسير سبل الزواج وتزويج الأكفاء، والله -سبحانه وتعالى- يقول «وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يغنهم اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» النور 32. يجب ترسيخ المعايير الشرعية؛ لاختيار الزوجين، وترك العادات والتقاليد البالية. فالزوج المناسب ديناً وخلقاً وأمانة يجب أن يكون هو الشرط الأساسي لقبول الزواج، ويجب على الأسر تذليل الصعوبات والعوائق التي تسهم في عزوف الشباب، وعلى المجتمع تبني ثقافة الوعي بضرورة حل هذه المشكلة، وإيجاد البدائل كل بحسب اجتهاده ودوره في المجتمع. وللفتيات اللاتي يشترطن شروطاً خيالية، أقول.. الخيال الزائد في اختيار الزوج سبب رئيس في تأخر سن الزواج، فعلى كل فتاة أن تكون أكثر نضجاً ووعياً، والزواج لا يمنع إكمال الدراسة، الزوج الناضج لن يقف في طريق دراستها، بل إن الكثير منهم أكبر معين ومعاون لزوجاتهم. موضوع العانس والمجتمع موضوع متشعب وكبير، يحتاج للمزيد والمزيد، وزاويتي لا تسمح، سأكتب فيه في مرات قادمة إن شاء الله. * تربوية - مديرة