مع الموجة الباردة التي تضرب بعنفوانها الأجواء نبادر إلى البحث عن مصادر التدفئة من ملابس وبطاطين وأجهزة ومشروبات ساخنة. وهي أمور تساعدنا على تدفئة أجسادنا.. لكن ماذا عن البرود الذي يصيب قلوبنا ومشاعرنا وعلاقاتنا؟. القلوب لا يدفئها إلا الحب بإخلاصه وعطائه ورأفته... بعضنا يفتقد دفء الحب في بيته، فتغشاه برودة المشاعر بينه وبين زوجه، ويكسو جليد الصمت الوجوه وتتبلد الاحاسيس، ولا مخرج لإذابة هذا الجليد المتراكم إلا الحب. ولنقرأ كيف صور القرآن دفء العلاقة بين الزوجين: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (21) سورة الروم. أظهرت دراسة سويسرية حديثة أن التلامس الجسدي مثل مسك الأيدي والتربيت والعناق يلعب دورا كبيرا في الحفاظ على دفء العلاقة الزوجية. ومن هنا نفهم تعبير القرآن عن العلاقة الحميمية بالملامسة {أو لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } (6) سورة المائدة وتشبيه الزوج والزوجة باللباس {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (187) سورة البقرة. وبعضنا يفتقد دفء الحب مع أرحامه وأقاربه، ويهب عليه صقيع الجفاء والتباعد، ومشكلتنا أن كلا منا ينتظر من الآخر أن يبدأ هو بالوصال، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعونا إلى المبادرة ((ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)). أخرجه البخاري. بل يدعونا إلى الاستمرار في محاولات إنهاء القطيعة بيننا وبين قراباتنا، قال له رجل: يَا رَسُول الله، إنّ لِي قَرابةً أصِلُهُمْ وَيَقْطَعُوني، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إلَيَّ، وَأحْلَمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ :(( لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكأنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذلِكَ)) رواه مسلم. أي كَأنَّمَا تُطْعِمُهُمُ الرَّمَادَ الحَارَّ. وبعضنا يفتقد دفء الحب مع الأصدقاء، حيث لقد عبثت المصالح والمنافع الشخصية بالصداقة، وبعض الخلطاء لا ترى له أثرا إلا إذا كان هناك منفعة خاصة يريدها منك. عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ. قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ «أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»..)) رواه أبو داود. وكثير منا يفتقد دفء الحب مع إخوانه في الدين أو الإنسانية فيما يعتريهم من الكرب أو المحن، كما يحدث لأشقائنا في سوريا وغيرها في مخيماتهم التي أطاحت بها العواصف الثلجية ومزق البرد أوصالهم وجمد الصقيع جلودهم، شيوخاً وأطفالاً ونساء، فلا ينبغي أن ندع البرد يقتلهم.. أو نسمح لبرود إحساسنا بهم أن يقتلنا!. الإيمان يمنحنا إحساسا بمعاناتهم كأننا جسد واحد، كما يقول نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى))، و(لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ). كيف تتحول هذه النصوص الصحيحة إلى سلوك ومبادرات؟ إن الحملة لوطنية السعودية لنصرة الأشقاء في سوريا كُلفت من قبل قادة المملكة، بتكثيف الجهود الإغاثية لتخفيف معاناة الأشقاء السوريين وفتحت لنا الباب للمشاركات العينية والمالية. ولا نريد أن نقع في فخ (هم يفعلون) دوري انتهى، لا حاجة للمشاركة بل دورك مطلوب. فالمحنة كبيرة، وهناك أطفال يموتون تحت الثلوج، فشارك في هذه الحملة عبر قنواتها الرسمية، ستشعر بالدفء الحقيقي فى هذا الجو القارص. قديما أتى رجل من أهل الشام رأى فِي المنام كأن صَفْوَان بْن سليم، (وهو من عصر التابعين) دخل الجنة فِي قميص كساه مسكينا، قَالَ: فدخل المدينة، فسأل عَنْه فدلوه عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَنْ قصة القميص، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتُخْبِرَنِّي مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَبَكَى صَفْوَانُ وقال: خرجت ذات ليلة إِلَى المسجد فِي السَحَر، فإذا مسكين يرتعد من البرد، ولم يكن لِي فِي قميص غير الَّذِي كَانَ علي، فكسوته إياه). مهما كانت برودة الطقس ومهما ضربتنا عواصف الصقيع سيظل الحب هو دفء قلوبنا ودثار علاقاتنا في أمة الجسد الواحد. * أستاذ مشارك بجامعة الدمام