كثر الحديث في عقود سابقة عن أهمية إنشاء صندوق سيادي لاستثمار فوائض الخزانة العامة استثماراً استراتيجياً عبر امتلاك أصول تُدرّ عائداً وتحقق مكاسب تتصل بامتلاك حصص من شركات واعدة أو تتمتع بمزايا تنافسية عالمية في الاقتصادات النامية والمتقدمة، أو حصص في شركات رائدة تقنياً. وبذلك فالصندوق يصطاد عدة "عصافير" دفعة واحدة، بما في ذلك توزيع المخاطر جغرافياً، عبر الاستثمار في بلدانٍ عدةٍ، ويمنع تركز الاستثمار في نشاط اقتصادي واحد. وإنشاء صندوق سيادي أمر ، وإدارة النقد أمرٌ آخر ، رغم أهمية النشاطين الاثنين، وهنا لابد من بيان نقطتين؛ الأولى: أن احتياطاتنا الخارجية تدار بحرص وتحوط إدارةً نقدية (cash management) باعتبار أنها توضع في أدوات (مثل السندات) تحقق ريعاً، وليس في أصول ثابتة في منشآت منتجة، كشركات في أنحاء متفرقة من العالم. والثانية: أن وقت إنشاء صندوق سيادي قد فات، باعتبار أن الأولوية هي لاستقرار إيرادات الخزانة العامة، فالهدف من الاحتياطي هو تغطية العجز في إيرادات الميزانية فيما إذا قصُرت عن تغطية الانفاق. وتجدر الإشارة الى أننا مررنا بتجربة امتدت من منتصف الثمانينيات من القرن الماضي وعلى مدى عقدين من الزمن، لجأت خلالها الخزانة العامة إلى الاقتراض لتغطية العجز ، ورغم أن الدين كان داخلياً، إلا أنه تعاظم حتى كاد يعادل الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. فقد بلغ 82 بالمائة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي في العام 2003، وعند تحسن إيرادات النفط سعت الحكومة لاستخدام جزءٍ مهمٍ منها لسداد الدين العام، بل وللتعجيل بسداده، وقد ذكر بيان وزارة المالية الذي صدر متزامناً مع ميزانية العام المالي 2015 أنه تراجع لنحو 1.6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. النقطة هنا، أنه ووسط التذبذب الهائل (حتى لا أقول المروع) لإيرادات النفط فليس وارداً السماح بتكرار تلك التجربة التي ألقت بظلال حالكةٍ على برامج التنمية (من مدارس وتعليم عال ورعاية صحية)، كما أنه ليس عملياً جعل أي تذبذب في إيرادات النفط يؤثر على الإنجاز التنموي الذي تعايشه البلاد حالياً. وهكذا، فالحديث عن إنشاء صندوق سيادي يستثمر في أصول خارجية استثماراً استراتيجياً أمرٌ فات أوانه، إلا إن كان سيبدأ بحصيلة محدودة تحكمها ضوابط تعكس أفضل الممارسات العالمية في الإدارة والتحوط، ثم ينمو رويداً رويداً وبالتدريج، لا أن يصبح بين عشيةٍ وضحاها القناة الأساس لتوظيف الاحتياطي الخارجي، وذلك لاعتبارات أهمها السعي للحد من المخاطر ، إضافة إلى أن المرتكز الأساس هو الحفاظ على استقرار إيرادات الخزانة بما يمكنها من تغطية التزاماتها وعدم الاستدانة، فالهدف الأساس من أي صندوق سيادي تنمية أموال الأجيال القادمة، ولكن من باب أولى ألا نراكم على تلك الأجيال أية ديون ابتداءً. وهناك طرق عدة لعدم مراكمة الديون، والتعامل معها في حال أن قصور الإيرادات النفطية دفعتنا إليها دفعاً، كما حدث في الثمانينيات كما سبقت الإشارة. ومن تلك الطرق السعي لإصدار ميزانيات متوازنة، بمعنى أن المصروفات لا تتجاوز الإيرادات، وبذلك يكون العجز صفراً، وقد يستصعب البعض ذلك، لكنه أسلوب مُبرر وسط تذبذب الإيرادات؛ فهو يضغط على المصروفات ويلجأ مباشرة إلى آليات تقشفية في حال تراجع الإيراد عما كان متوقعاً. وباعتبار أن الخزانة تمتلك في الفترة الراهنة احتياطيات، فقد يخفف ذلك من وطأة تطبيق الميزانية الصفرية العجز تطبيقاً حذافيرياً عبر اللجوء للاحتياطي بما لا يتجاوز نسبة مئوية محددة مسبقاً (مثل 7 بالمائة)، وفي حال تجاوز ذلك فعلى الحكومة أن تولدّ إيرادات إضافية. * متخصص في المعلوماتية والإنتاج