بقدر تعلقنا بالقرآن، يكون خلاصنا من الشقاء، فالقرآن والشقاء لا يجتمعان. فهو كتاب أنزله ربنا على نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- ليسعد هو وأمته به. يقول محمد الأمين الشنقيطي- رحمه الله- عند قوله تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى): «ويُفهم من قوله: لتشقى؛ أنه أنزل عليه ليسعد». عندما يهطل الغيث تنتشي الأرض، وكأنما تهتز شوقاً له. وحتى النفوس يبهجها المطر ويسرها. القرآن غيثٌ كما وصفه النبي الكريم-عليه الصلاة والسلام-: (مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والنور كمثل غيث..) رواه البخاري ومسلم. القلوب التي استوطن فيها الحزن واستقر، وأصبحت بسببه مجدبة قاحلة، ففقدت معاني الحياة وبهجتها. وظهر أثر ذلك في وجوه أصحابها، ففيها حزنٌ لا تخطِئه العين. لن يعيد هذه القلوب للحياة إلا أن يهطل عليها كلام ربها، فهو أعلم بها، وهو القادر سبحانه أن يعيد إليها بهجة الحياة من جديد. كل ما علينا فعله، حتى ينهمر هذا الغيث على قلوبنا، المكلومة والحزينة، التي أضناها المسير في هذه الحياة ودروبها الطويلة والشاقة، أن نفتح دفتي المصحف، ونتلوه بخشوع وتدبّر، عندها حتى دموعنا ستشارك هذا الغيث في غسل قلوبنا مما أصابها من كدر الحياة ونكدها. القرآن ذِكْرٌ (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ)، بل هو أعظم الذكر، وبالذكر تطمئن القلوب، وإذا اطمأنت ابتعد عنها مصدرا الحزن الرئيسيان؛ الخوف والقلق. القرآن هادياً ومرشداً (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، فأنت به لا تضل الطريق، وإنما تضل به الحَيرةُ الطريقَ إلى قلبك. القرآن بما فيه من الأحكام والآداب والأخلاق، التي لو امتثلناها في حياتنا واقعاً وسلوكاً، ولم نُعرض عنها، اجتنبنا حياة الضنك والضيق (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا). القرآن يسلِّينا، عندما يقصُّ علينا قصصا لمن فرَّج الله عنهم كربتهم، وأخرجهم من الضيق إلى السعة. فشفى أيوب- عليه السلام- بعد طول المرض، وردَّ إلى يعقوب يوسف- عليهما السلام- بعد طول الغياب والفراق، ونجَّى يونس- عليه السلام- من الغَمِّ؛ وأخرجه من بطن الحوت، ومنح زكريا- عليه السلام- الولد بعد طول الحرمان، وأخرج يوسف- عليه السلام- من البئر والسجن ليكون عزيز مصر. كل هذه القصص، تقول لنا: أن لكل هَمِّ نهاية، ولكل ضيق فرج وسعة. نقرأ في القرآن، أن لنا رباً رحيماً، فلا قنوط من ذنب، (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). حتى أشد لحظات الضيق والكرب والقنوط، التي تمرُّ على الإنسان، فتجعله مستعداً أن يضع حداً لحياته بقتل نفسه، فنجد في القرآن، أن رحمة الله قريبٌ منه، فما بالنا بما هو أقل من هذه الحالة مما يصيبنا من الهموم والأحزان، (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا). نقرأ في كتاب ربنا، أن لنا رباً حكيماً، فنطمئن لتدبيره لأمورنا، وحسن اختياره لنا، فلا اكتراث، وإنما هو التسليم والتوكل. وهكذا لا يدع القرآن، سبباً من أسباب الحزن والأسى، من القلق والخوف والقنوط والضلال والتيه، إلا أتى عليها، واستبدله بنقيضه. دعني- قبل الختام- أن أربط بين قول الله تعالى لآدم -عليه السلام- محذراً له من أن يخرجه الشيطان من الجنة: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)، وبين قوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى) لنعلم أن القرآن جنَّة، وبإعراضنا عنه كمن يقرر أن يغادر هذه الجنة، فالمصير الذي ينتظره هو الشقاء، ولا غير الشقاء.