إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا بُعث نبينا ليتمم مكارم الأخلاق، فما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه. دورات تعقد وكتب تؤلف وبرامج وندوات ومناشط ولقاءات تعقد هنا وهناك لتعليم فن الحوار وللتوعية بآداب الاستماع والإنصات. ذُكر في بعض الدراسات أن الحوار سبب لحل 92% من المشكلات، ولكنه الحوار الراقي والنقاش البناء! بينما في الكثير من حوارات اليوم؛ سوء إنصات وسوء خلق وسوء إنصاف، لأن الكثير يحاور وقد حسم الأمر سلفاً، يجحد الحق ويغالط الصواب ويرفض الحقيقة، كل ذلك ليفرض رأيه ويمرر حجته ولو كانت داحضة ويوجب الأخذ بوجهة نظره، فلا ينظر للمقابل بإنصاف ولا يتأمل في قول المقابل لما قد يحتويه من الحق، بل إن البعض لو ظهر له الحق فإنه يرفضه ويحيد عنه يميناً وشمالاً. قال الإمام الشافعي رحمه الله: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. ولكن الكثير اليوم منهجه وشعاره: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب. من ليس معي فهو ضدي!. كان نبينا أفضل الناس خلقاً وأدباً واستماعاً، فكان يغشى المجالس ويزور القبائل في أنديتها، ويوصل رسالة رب العالمين للجميع، ويلقى ما يلقى وكان يسمع من الجميع وينصت للكل ويطرح ما لديه، رغم أنهم كانوا على الباطل المطلق وهو على الحق المطلق، والعجيب في ذلك قصته مع عتبة بن ربيعة- أحد صناديد قريش- والتي يجب أن تدرس وتلقن لفقراء الأخلاق، وأرقاء الأدب وحسن الاستماع. عتبة بن ربيعة كان مسناً عاقلاً سيداً، قال يوماً وهو فى نادى قريش، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس فى المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة- رضى الله عنه- ورأوا أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخى، إنك منا، حيث قد علمت من السطة (المكانة) فى العشيرة، والمكان فى النسب، وإنك قد أتيت قومك بالأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: قل يا أبا الوليد أسمع، قال يا ابن أخى، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرحيل حتى يداوى منه، أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع منى، قال: أفعل، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم «حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون. بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون. وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه» ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيها يقرأها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال ورائى أنى سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعونى واجعلوها بى، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيى فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. من يرى اليوم الصراخ والعويل والنواح والصياح في مجالس حكومية أو عائلية أو حتى بين اثنين لا يعقدان الحبل ولا يحلانه، يعرف أي ثقافة يعيشها بعض الناس وأي توعية تتلقاها بعض المجتمعات!