إذا كانت النظريات الحديثة في العلوم التعليمية تؤكد على محورية المتعلم أو الطالب في العملية التعليمية، وعلى تغيير دوره التقليدي السائد من مستهلك للمعرفة إلى منتج لها، فإن هذه النظريات لا يمكن تحويلها من الكلام النظري الجميل الذي نسمعه في الملتقيات والاحتفاليات إلى ممارسة فعلية على أرض الواقع، إلا بوجود معلم قد تم تأهيله تأهيلاً كافياً؛ فهو الشخصية المحورية التي تتعامل مع المتعلمين بشكل مباشر. إذا كنّا نؤكد على ضرورة تأهيل المعلم وتدريبه وإعطاء حقوقه ورفع مستوى انتمائه لمهنته عبر حوافز مادية ومعنوية ملموسة، فهذا لا يتنافى مع حرص المعلم والمربي عموماً على تطوير ذاته بما يمكّنه من أداء رسالته، وأولى أولويات هذا التأهيل نجاح المعلم في صفه، والمربي مع تلاميذه، والمدير في مدرسته في بناء أجواء آمنة، فبقدر قدرة المعلم على بناء بيئة آمنة في صفه بقدر ما ينجح في تعزيز روح الانتماء لدى تلاميذه، وهذا لا يتأتى إلا ببناء جسور نفسية قوامها الود والاحترام وعمادها الجد والاجتهاد، وهذه الأسس المهمة يمكن زرعها عندما ينجح المعلم في تأسيس معايير عادلة في التعامل مع طلابه، وقد كان يقول بعض العلماء: ينبغي للمربي أن يكون عادلاً تجاه طلابه حتى «في اللحظ واللفظ»، فالعدل حتى في توزيع حركة الجسد ونبرة الصوت ومتابعة طلابه وتحفيزهم يفضي لشعور الطالب بالحب والأمن، وهذا يرفع من منسوب الانتماء فترتفع دافعية الطالب للتعلم، وقد ذكر لي أحد الأساتذة التربويين أنه عندما كان يدرس في المرحلة الثانوية كان معجباً بشخصية أحد معلميه حتى كان يقلده في مشيته وطريقة وضع غترته، وكان من عادة هذا المعلم ألا يسمح للطالب بالدخول للصف إلا بورقة من مدير المدرسة، ولكنه في أحد الأيام جاء أحد الطلاب الذي تربطه به صلة قرابة متأخراً، فسمح له بالدخول، يقول صاحبي: انهارت صورة معلمي في مخيلتي، وقمتُ فوراً بتغيير طريقة وضع الغترة التي كانت تشبه طريقته كتعبير عن الرفض والاستياء من ذلك الموقف الذي شكل لي بقعة سوداء في لوحة بيضاء جميلة. إن أدوات بناء البيئة التعليمية الآمنة كثيرة، ولكن الأهم من ذلك كله قناعة المعلم والمربي بأن بيئة الخوف وبيئة الفوضى والانفلات لا يمكن أن تجعل من فصولنا وبيوتنا بيئات آمنة تجد عند مرتاديها الجدية والفاعلية في التعلم.