لم يتورع أحمد داود أوغلو في لقاء مع صحافيين غربيين من القول، بأن تركيا كانت امبراطورية عثمانية كبيرة ومترامية الاطراف، والآن وبعد سنوات تشعر تركيا بأن مقاسها الحالي يضيق بها ولا يعبر عن حجمها وإمكاناتها، وكما هناك دول الكومنولث البريطانية والفرانكوفونية الفرنسية، نطمح بأن تكون هناك عثمانية جديدة تظلل الدول التي كانت ذات يوم جزءاً من دولة الخلافة الإسلامية. ولأن هذه الطموحات كبيرة ومغايرة للواقع كانت انقرة ترى فيما يسمى بالربيع العربي والإخوان المسلمين طريقاً نافذاً لإقامة دولة الخلافة، ولكن عندما سقط الإخوان تراجع مشروع اردوغان وطموحاته وحلمه الخاص بدولة الخلافة الإسلامية، وما صاحبه من انتقادات دولية لدور أردوغان ، إلا أن ذلك لم يثنه عن حلمه فى استعادة مجد الدولة العثمانية القديمة، وبدأ فى البحث عمن يساعده على تحقيق حلمه بعد ما تبين له استحالة تحقق هذا الحلم من خلال الإخوان المسلمين. وهنا تلاقت الإرادات ففيما أعلن تنظيم داعش قيام دولة الخلافة الإسلامية ومبايعة أبو بكر البغدادي "خليفة للمسلمين في كل مكان"ليتحول بذلك اسم التنظيم إلى تنظيم داعش. وتشمل دولة الخلافة التى يدعو التنظيم لإقامتها بالشرق الأوسط، ومناطق كبيرة من آسيا، وأجزاء أخرى من أوروبا. نجد على الجانب الآخر يطمح أردوغان إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية يقودها هو من إسطنبول وذلك على أمل استعادة مجد الدولة العثمانية القديمة التى أسسها عثمان الأول بن أرطغرل واستمرت نحو ستة قرون من الزمان (يوليو 1299- أكتوبر 1923). وفى ذلك الوقت بلغ عدد الولايات العثمانية 29 ولاية، إضافة إلى سيادة اسمية على عدد من الدول الأوروبية. والتساؤل هو: كيف يمكن لدولة مثل تركيا ببناء علاقات مع تنظيمات وجماعات إرهابية حتى ولو كان هذا الأمر من شأنه تحقيق مصالحها؟ وكيف أصبح الأمر معلناً لهذه الدرجة ولم يعد خفياً على أحد؟ فى واقع الأمر ومن واقع الخبرة التاريخية فإن ثمة تعاونا بين الحكومات– ديمقراطية كانت أم سلطوية، من دول العالم المتقدم أم النامي- مع الجماعات الإرهابية لتحقيق مصالح بعينها فى الداخل والخارج، وإن الأمر ليس بالأمر الجديد، لكن دائما ما تكون هناك ضوابط محددة لشكل ومسار تلك العلاقة. والمشكلة تحدث عندما يتجاوز أى من الطرفين تلك الضوابط المحددة أو عندما تتغير وتتبدل المصالح أو ربما عندما يدخل أطراف وفاعلون آخرون. والملاحظ أنه حتى الآن فعلاقة حكومة تركيا بتنظيم داعش الإرهابي ما زالت تسير وفقا للضوابط المحددة. لكن المؤكد أن هذه العلاقات لم تعد سرية لكنها معروفة حتى للولايات المتحدةالأمريكية ذاتها، وهناك إشارات واضحة لهذه العلاقة في الصحافة التركية والأمريكية . المفارقة هى استمرار النظام التركي فى رفض هذا الأمر حتى إن الرئيس التركي اعتبر الاتهامات التى توجه إليه بدعم داعش فى معاركه فى المنطقة بأنها ضرب من "الوقاحة". كما أن التناول الإعلامي لم يعد مقصوراً على الصحافة العربية والغربية فحسب، فحتى الصحف التركية أصبحت تناقش القضية بشكل مستفيض.فوفقاً لصحيفة " إدينلك ديلي" التركية فإن أنقرة هي أول من مول زعيم داعش أبو بكر البغدادي، كما أنها قامت باستضافته قبيل بدء انطلاق جماعته.والتبرع له بمبالغ كبيرة من المال عام 2008 قبل تأسيس التنظيم. وأن أحد رجال الأعمال الأتراك تبرع له بمبلغ 150 ألف دولار .مشيرة إلى استمرار قيام وحدات حزب العدالة والتنمية التركي السرية المتواجدةبسوريا في تقديم المساعدة إلى عناصر تنظيم داعش. كما أشارت الجريدة التركية فى هذا التحقيق الصحفي الهام إلى حصولها على معلومات تفيد بإصدار أوامر من حزب العدالة والتنمية إلى الضباط المحليين وذلك لتوفير كافة وسائل الراحة والمساعدة لعناصر تنظيم داعش. وربما كان هذا الأمر هو ما دفع مسلحي داعش لتوجيه الشكر لحزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا وذلك لتقديم الحزب العلاج لهم فى مستشفيات أنقرة، وذلك عقب إصابتهم فى الاشتباكات التى جرت مع الجيش العراقي بالموصل. وهو ما أثار استياء الشعب التركي. وفي السياق ذاته، أكدت الجريدة أن عناصر تنظيم داعش تقوم فى الوقت الراهن بالعبور بكل سهولة بين المحافظات التركية الحدودية مع سوريا حتى إن القوات التركية تكون على علم مسبق بالعمليات التى يجريها تنظيم داعش داخل المحافظات التركية على الحدود مع سوريا. ولم يقتصر الأمر على هذا الحد بل أكدت الصحيفة ما يتم تداوله من أن مطارات إسطنبول وغازي عنتاب وهاتاي، جميعها تعتبر نقاط عبور مهمة للإرهابيين القادمين من الخارج. وفى سياق متصل أكدت مصادر تركية استخدام تنظيم داعش لقاعدة إنجرليك العسكرية الأمريكية الموجودة بمنطقة أضنة التركية لإجراء تدريباتهم القتالية. وهو الأمر الذى اكتشفته الولاياتالمتحدةالأمريكية. حيث تشير المصادر إلى وجود وحدات عسكرية تابعة لداعش بالقرب من القاعدة العسكرية. وبذلك فالحديث عن العلاقة الخفية بين تركيا وداعش ليست على قدر كبير من الصواب فالعلاقة بين الطرفين أصبحت معروفة - وإن لم يكن بكافة أبعادها، فتركيا الآن ورغم مشاركتها فى "ائتلاف جدة" المناهض للإرهاب - وهى بذلك الدولة الأطلسية الوحيدة فى الائتلاف - إلا أنها رغم ذلك رفضت التوقيع على ميثاق الائتلاف أو حتى بيانه التأسيسي، ورغم كونها فى الوقت ذاته الدولة الأطلسية الوحيدة التى تشترك فى حدود مع كل من سورياوالعراق، ورغم ذلك رفضت الاشتراك فى الحرب الدولية ضد داعش مبررة ذلك فى بادئ الأمر بالخوف على حياة دبلوماسييها ال 49 الذين اختطفهم تنظيم داعش فى يونيو الماضى. وبعد نحو ثلاثة أشهر تم الإعلان عن إطلاق سراحهم وفى البداية أعلنت تركيا إنها لم تعقد أى صفقة مع داعش فى هذا الشأن، حيث أعلن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو أن المخابرات التركية تمكنت من إعادة الرهائن الأتراك، سالمين إلى تركيا. وأضاف أوغلو، أن إطلاق سراح الرهائن جاء بعد "أيام من العمل الشاق". أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد أشار إلى أن الإفراج عن الرهائن الأتراك كان جزءاً من عملية للمخابرات التركية "معدة مسبقاً". وبذلك فهذا الإفراج عن الرهائن أثار التكهنات بشأن ماهية تلك العملية، وعما إذا كانت شكلا من أشكال التمويه، حيث لم يسبق لتنظيم داعش المعروف بوحشيته الإفراج عن أى مختطفين. وكان الإعلان عن المفاوضات مبرراً من قبل تركيا للإعلان عن رفض استقبال اللاجئين الأكراد الهاربين من المجازر التى يرتكبها داعش فوفقاً لنائب رئيس وزراء تركيا نعمان قورتولموش كان يسمح فى البداية لآلاف الأكراد للعبور إلى تركيا، وذلك فى ضوء المجازر التى ارتكبها داعش فى مدينة عين العرب السورية، إلا أنه بعد ذلك ومع بدء الإعلان عن بدء المفاوضات مع داعش لتحرير الدبلوماسيين الأتراك المختطفين من قبل الأخير، قامت السلطات التركية بإغلاق الحدود نهائياً. ليس هذا فحسب فقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الجيش التركي يعتزم إقامة منطقة عازلة على طول الحدود مع العراقوسوريا لمواجهة تهديد مقاتلي تنظيم داعش، على أن تبدأ تلك المنطقة من حلب وحتى إدلب بشمال سوريا. وفى هذا السياق ذاته تشير المصادر إلى أن تلك المنطقة تشكل مجال سيطرة داعش، ويمكن لمن يسيطر عليها التحكم فى الحدود السورية التركية ،وفى حال تحقق هذا الأمر فإن هذا يعنى أن الحدود بين سورياوتركيا سوف تكون مفتوحة وسوف يترتب على ذلك تدفق أكبر للسلاح وسهولة انتقال المقاتلين إلى سوريا لمحاربة نظام الأسد. وهو ما دفع البعض للقول بأن عملية الخطف من أولها كانت تمويها فى إطار التعاون الوثيق بين الطرفين لتبرير ما سيقوم به النظام التركي بعد ذلك. وعلى الجانب الآخر، تمنع الحكومة التركية وصول الأسلحة للمقاتلين الأكراد فى مدينة رأس العرب "كوبانى" على الحدود السورية التركية كما تمنع الأكراد من عبور الحدود للوصول إلى كوبانى وذلك لمشاركة الأكراد السوريين فى الدفاع عن المدينة فى مواجهة تنظيم داعش. هذا دفع فيصل مقداد"، نائب وزير الخارجية السوري للإعلان بأن تركيا لا تشكل جزءاً من الحل لكنها جزء من المشكلة، مؤكداً على أن فشل تركيا في الحصول على دعم دول الأممالمتحدة من أجل الحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن، هو تعبير واضح عن رفض العالم للسياسات التركية التي تتبناها في التعامل مع قضية سورياوالعراق، إضافة إلى العلاقة مع داعش". وهنا تجدر الإشارة إلى أن تركيا كانت قد حصلت على 60 صوتا فقط، وفي المقابل حصلت أسبانيا على 132 صوتا مع ملاحظة أن الحد الأدنى من الأصوات المطلوب هو ثلثا المصوتين (129 صوتا). وبخصوص إقامة منطقة عازلة على الحدود السورية التركية، اعتبر المقداد أن "بدعة إقامة مناطق عازلة داخل سوريا التي خرجت بها القيادة التركية وعلى رأسها اردوغان واستبدلها رئيس وزرائه صاحب نظرية " صفر مشاكل مع بلدان الجوار التركي " بمقولة مناطق آمنة هي انتهاك سافر مهما كان اسمها للقانون الدولي". والتساؤل المطروح الآن هو: هل ينجح هذا التحالف - غير الخفى الآن – فى تحقيق مصالح الطرفين، وفقا للخبرة أيضا فإن هذا النمط من التحالفات لا يدوم طويلا ويقتصر دوره على تحقيق مصالح تكتيكية أكثر منه تحقيق مصالح إستراتيجية والمرجح أن السحر سينقلب على الساحر قريبا. ومثلما أخطأت تركيا فى ثقتها فى جماعة الأخوان المسلمين، وهو الأمر الذى أضر بصورتها الدولية كثيراً، وخاصة فى العالم العربي، فإن التعاون الوثيق مع تنظيم على شاكلة تنظيم داعش من المحتمل أن يضر بالدولة التركية ككل. باحثة مصرية فى العلاقات الدولية