في صباح يوم جميل، وفي طريقي متجهاً لمطار بومباي الدولي، لفتت انتباهي مباهج الفرحة التي عبّر عنها الناس بصورة متشابهة دون تمايز أو انتساب، استحضرت تاريخ النضال الذي سجّله (غاندي) والذي دعمه فيه رجال من قادة المسلمين كما ذكر (سيلا راميا) وهو من زعماء حزب المؤتمر الهندوسي حين قال: »المسلمون أثروا ثقافتنا وقوّوا إرادتنا لتخليص الهند» و كيف أن (غاندي) في يوم إعلان استقلال الهند عن المملكة المتحدة في 15 آب 1947 استقرّ في مدينة «كالكوتا» بدلاً من «نيودلهي» معلناً الحداد على انقسام وطنه عوضاً عن الاحتفال بالتحرير الذي ناضل من أجله بعد أن تقاسمته أيدي القادة الهنود كجزء من الغنيمة، ففي هذا اليوم تذكير ببدء مرحلة جديدة من مراحل التعايش على المستوى الديني ثم الحقوقي في كل الهند، وذلك تحت مباركة سلطة القانون، وسطوة المجتمع ووعيه الثقافي، وهدف الجميع هو «تنمية شاملة» مبناها: عدم المزايدة في وطنيةٍ ولا إجحاف بحقوق الآخرين. .. لن أشير إلى نصوص شريعتنا التي شكّلت مفهوم التعايش بين الشرائع في حدودها وضمن ضوابطها في إطار (السياسة الشرعية)، ولن أروي الصور المشرقة للسلف في تعايشهم مع مختلفي الطوائف العقدية؛ لأنها لم تصِلْ عندنا لمرحلة المشكلة، ولله الحمد، ولكن مشكلة المجتمع العربي- خاصة الفئة المثقفة - أنها تعيش أزمة القَبول بالآخر المختلف عنا في الرأي، مع ترسيخ لثقافة الإقصاء في مناهجنا وحلقات العلم أحيانًا، بعيداً عن قول نبي الله ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ). .. ما زلنا نرى حرب المثقفين الضروس على ثغور «تويتر»، وبين خنادق التغريدات، حول وسائل النضج الفكري وموارده الصافية، وطرق الاستفادة منه في المنظومة اليومية، في التعليم والتربية والحياة السياسية، ومن عمق الواقع نتلمَّس ترفًا فكريًّا، ورفضًا لرأي الآخر المقابل، وذلك تحت وطأة انتسابٍ معين أو صورة مسبقة، معتقدًا أنه يملك الحقيقة الكبرى، والغَيرة التي لا تقبل الاشتراك، فيقف الشباب حائرًا أمام تراشقاتِ قُدواتِه، هل ما يقوم به هو تحقيق للبُعْد الثقافي في الصراع أم صراع ثقافي بعيد؟ وفي واقع الأمر لا تعدو القضايا في مجملها مجرد «مصطلحات». .. نشر الآراء لا يكفي لاحترام أصحابها، ما لم نتدرب على الطريقة المثلى في مناهج التعليم للتعايش وَفْق معطيات ما بعد الرأي، وبماذا سيؤثر علينا، وكيف نسخِّر الرأي الآخر - فكريًّا أو طائفيًّا أو سياسيًّا - لاستثماره في تنمية مجتمعية عامة للمملكة، يقول الباحث في جامعة بون «شتيفان فيلد»: إن الحوار الثقافي يقي العالم شرور الصدام والعنف والصراع؛ شرط أن يتأسس هذا الحوار على ثلاثة أركان أساسية، وهي: ( نشر المعارف حول ثقافة الآخرين، تجنب التعميم، الاستعداد للنقد الذاتي )، وقد أورد الإمام ابن حزم مواقف رائعة - منثورة في مظان كتبه - في قبول الرأي الآخر، والتعايش على مستويات عالية جدًّا، مع مختلف أصحاب الأصول العقائدية، والتي تعكس وعيًا سياسيًّا للمجتمع الأندلسي المسلم، وإثراءً ثقافيًّا يحتذى به، وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية ضرب أروع الأمثلة للتعايش والإنصاف مع كل مخالفيه. .. أخيراً ،، «حادثة الأحساء» جريمة مهما كانت الدوافع، والعقلاء ماضون في حماية الوحدة المجتمعية من الشقاق، وصيانة العمق التعايشي من أن تخترقه أخاديد المنفعة، وهذه الوحدة ستقوم بدورها سعياً لتصحيح العلاقة بين أطرافها، وإن اختلفت مآخذهم.