تشكل هجرة النبي - عليه الصلاة والسلام - محطة رئيسة في السيرة النبوية ولها دلالاتها ودروسها التي لا يزال المسلمون ينهلون من معينها، ويقتبسون من أنوارها ما يضيء طريقهم وسيرهم في هذه الحياة. عندما نتأمل في الجهد الدعوي المضني الذي بذله النبي - عليه الصلاة والسلام - طوال ثلاث عشرة سنة في مكة، ومقدار التضحية الكبرى التي بذلها مع أصحابه - رضوان الله عليهم - خلال هذه الفترة ندرك أن طريق التشييد والبناء في عالم العقائد والأفكار يحتاج جهداً مضاعفاً، لا يقدر عليه أصحاب النفَس القصير الذين سرعان ما ينفضون أيديهم إن لم يجدوا ثمرة أفعالهم بعد أيام أو أشهر قليلة، ومن جهة أخرى نلحظ أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يحصر دعوته في نطاق مكاني معين، حتى وإن كان هذا المكان له قدسيته، أو كان هذا المكان له مكانته الأثيرة في سويداء قلبه، حيث مراتع الصبا وذكريات الشباب، فقد وقف النبي - عليه الصلاة والسلام - في الحزورة على مشارف مكة، وقال: (والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منكِ ما خرجت)، وهذا فيه دلالة أن المصلح أو المربي أو المعلم قد يبذل جهوداً كبيرة في التعليم والتوجيه في مدرسة أو حي أو مرفق من المرافق، ثم يكون الانتقال إلى مكان آخر أكثر نفعاً وأفضل جدوى من المكان الأول، وهذا ينبه المربي والمعلم لأهمية تغيير البيئة عندما لا تُنتج جهوده الثمرة المرجوة بعد استفراغ الوسائل والأدوات المتنوعة في التربية والتوجيه. ظفر أبوبكر الصديق بشرف صحبة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - في هجرته وتكفلت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - بتوفير الطعام لهما. وقام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بشجاعته المعهودة بالمبيت في فراشه - عليه الصلاة والسلام - وتم استئجار عبدالله بن أريقط ليدلهم على الطريق، وهذا فيه درس لكل مسلم أن النجاح لا بد فيه من بذل كافة الأسباب الدنيوية المتاحة لتحقيقه، وأن لا يعتمد المسلم اعتماداً كلياً على صدق رسالته ونبل أهدافه في إنجاز مشاريعه، بل لابد من التفكير والتخطيط وتوفير البنية البشرية والمادية التي بها يتحقق الهدف بإذن الله، ويقطف فيها المرء ثمار عمله وجهده. كلما أمعن المسلم في قصة الهجرة ستظهر له الكثير من العبر والدروس التي يستلهمها في حياته، وستساعده في وضع لبنات نجاحه، وإنما يُحرم الإنسان من هذه الدروس العظيمة والمعاني الثمينة عندما يتعامل مع قصة الهجرة كحدث تاريخي يُمر على عقله ووجدانه كالسحابة العابرة التي لا تسقي ماء ولا تُنبت زرعاً وثمراً.