لم تخرج مواقف أغلب المفكرين والباحثين الأوروبيين عن خيار إبداء الرأي، تأييداً أو تقويماً أو نقداً بخصوص التطورات التي تمر منها منطقة الشرق الأوسط، ما دام الأمر يتعلق بمنطقة محورية في التوازنات الاستراتيجية الدولية، بالصيغة التي نعاينها منذ عقود مضت، وليس منذ سنوات، ويكفي تأمل تعامل القوى الدولية مع الصراع الدائر في سوريا، لولا أن الأمر لا يختزل فقط في الحراك السوري وقلاقله الدموية، وإنما يهم المشهد الخليجي العربي على الخصوص، وموازاة معه الثقل الإسرائيلي المؤثر في صناعة القرار الغربي (الأمريكي والأوروبي)، وبدرجة أقل التطورات المؤرقة التي تمر منها المنطقة العربية منذ حوالي أربع سنوات، بعد اندلاع أحداث الفتنة الأمنية والسياسية، والتي اصطلح عليها إعلامياً بأحداث ما يسمى ب "الربيع العربي". سوف نتوقف على الخصوص عند التفاعل الفرنسي، بحكم الوزن الفرنسي، سياسياً واقتصادياً وثقافياً في القارة الأوروبية، مقارنة مع ثقل باقي الدول الأوروبية، وهو الثقل الذي ينعكس بشكل مباشر على آراء ومواقف المفكرين ومراكز الدراسات في هذه الدولة الأوروبية أو تلك. بين أيدينا نموذج تطبيقي يزكي هذا المعطى: على هامش تنظيم نسخة العام 2012 من معرض مدينة "طورينو" المُخَصّص للكتب وهو أحد أهم معارض الكتب في إيطاليا تم توظيف مصطلح "الربيع" (نسبة إلى "الربيع العربي") لكي يكون شعاره "الربيع الرقمي"، ورُب متتبع قد يتوهم أن المقصود بذلك لم يخرج عن قراءة النخب الفكرية والبحثية في إيطاليا لأحداث "الربيع العربي"، وذلك الربط بين دور الثورة المعلوماتية وفورة مواقع التواصل الاجتماعي في اندلاع هذه الأحداث، لولا أن الأمر مغاير لهذا المعطى بالمرة، لأنه كان يُحيل على الفورة التي تُميّز زمننا الراهن، أي الفورة الرقمية في العالم بأسره، وكان التناول النقدي والبحثي لأحداث "الربيع العربي" في إصدارات المعرض تحت شعار "اللامبالاة"، وكأنه لا شيء قائم في المنطقة العربية، كما جاء في دراسة مطولة للباحثة إلينا شيتي [Elena Chiti] تحمل عنواناً دالاً: "رؤى أوروبية حول "الربيع العربي": ثقافة نفي الثورات: الحالة الإيطالية نموذجاً". "فلاسفة جدد" موالون للدولة العبرية بالعودة إلى الساحة الفرنسية، من المهم التمييز أولاً بين أهم التيارات الفكرية وتعاملها النقدي مع الأوضاع في الشرق الأوسط، والمسألة أكبر من موضوع الانتماء لليمين أو اليسار، وإنما مرتبطة بعلاقات هذه النخب مع صناع القرار في فرنسا وفي الشرق الأوسط، وبالتحديد إسرائيل التي تكاد تحدث شرخاً جلياً في مواقف النخب الفكرية من قضايا المنطقة ككل. الإحالة هنا على وجود ما يُشبه «لوبي فكري» يعلن بشكل صريح عن موالاته لإسرائيل، ويتعلق الأمر على الخصوص بأهم رموز تيار "الفلاسفة الجدد"، وفي مقدمتهم الثلاثي برنار هنري ليفي [B.H.L]، أندريه غلوكسمان [Glucksmann] وآلان فنكلكروت [Finkielkraut]: مواقف هذا الثلاثي من قضايا الشرق الأوسط لا تخرج عن المواقف الرسمية لإسرائيل، وهم واضحون في ذلك، أما التصدي لهذا الخيار المنحاز، فيتم بشكل محتشم، حيث نعاين قلة قليلة من الباحثين الفرنسيين الذين ينتقدون الكيان العبري، ويوجد الباحث السويسري من أصل مصري، طارق رمضان في مقدمة هؤلاء، ويوجد أيضاً فكاهي شهير، والإحالة على ديودونيه [Dieudonné]. تكمن أهمية الاستشهاد بمواقف هذا الكوميدي في أنه ينتمي إلى طينة من الفنانين الذين يؤثرون على الرأي العام، بموازاة مع التأثير الممارس على الخصوص من طرف بعض "النجوم الإعلامية" وتأثير أبرز المفكرين والباحثين، ويُحسبُ لهذا الكوميدي صراحة الدفاع عن الشعوب العربية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني ضد "اللوبي" الفكري الذي يقوده تيار "الفلاسفة الجدد"، ولذلك، يتعرض لمضايقات، ووصل الأمر إلى مرتبة منعه من إلقاء عروضه الكوميدية في المسارح والقاعات الثقافية، واقتصر حضوره الإعلامي على شبكة الإنترنت، ولأهمية وزن هذا الكوميدي، وصل الأمر إلى صدور تصريحات عن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند شخصياً، وكذلك الأمر مع رئيس الحكومة، إيمانويل فالس، بأنهم مع قرار منع الكوميدي من إلقاء عروض كوميدية، بمعنى آخر، التأثير الذي يمارسه هذا الكوميدي كحالة خاصة للمفارقة يعادل التأثير الممارس من بعض المفكرين ومراكز الدراسات بخصوص قراءة أوضاع الشرق الأوسط، بحكم أنه يُمرّر مواقف نقدية لصناع القرار في فرنسا من أوضاع الساحة. تميز ورصانة كيبل وروا نجد في الساحة الفكرية بعض الرموز البحثية التي يحسبُ لها أنها أخذت مسافة من الأحداث، عبر عدم الانتصار للمواقف الفرنسية الرسمية، ونخص بالذكر اسمين اثنين: جيل كيبل [Kepel] وأوليفيه روا [Roy]، ونتحدث عن أبرز الأسماء الفرنسية الحاضرة بقوة في متابعة الأوضاع في الشرق الأوسط، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما أنهما متتبعان عن قرب، ومنذ عقود، للأوضاع العربية والإسلامية في المنطقة تحديداً، مع أفضلية نسبية لجيل كيبل بحكم أن أغلب أعماله جاءت مُخصّصة لأوضاع المنطقة؛ (صدرت له عشرة مؤلفات على الأقل، مُخصّصة لمنطقة الشرق الأوسط). وثانياً أنهما تخَصّصا في متابعة أداء الحركات والأحزاب الإسلامية، سياسية كانت أم "جهادية"، وليس صدفة أن يطلب العديد من صناع القرار في الدول الغربية، استشارات من هذين العلمين البارزين. نجد مجموعة من المفكرين والباحثين الذين يُحسب لهم الدفاع عن القضايا العربية، ويمكن أن نذكر هنا الفيلسوف إدغار موران، ونجد أيضاً، الباحثة جوسلين سيزاري، المعروفة بمواقفها اليسارية والمعادية للنزعة الإمبريالية الغربية (أمريكية وأوروبية على حد سواء)، وهناك كذلك الباحث والمؤرخ شارل سانت برو، الذي ألف كتاباُ يدافع في مضامينه عن السلفية الإصلاحية، باعتبارها "حركة دينية إصلاحية ومجددة أكثر منها إيديولوجية طائفية متشددة". (كما جاء في الباب الثاني من كتابه "مستقبل الإسلام بين الثورة والتغريب")، وجاء الكتاب في خضم حملات الشيطنة التي تعرضت وتتعرض لها المرجعية الإسلامية السلفية. فيما يتعلق بأهم المجلات الفكرية والثقافية التي تتابع الأوضاع في الشرق الأوسط، يجب التذكير بأنه لا يمر شهر دون الاطلاع على متابعات فكرية وبحثية لتطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، ويكفي متابعة مضامين شهرية "لوموند دبلوماتيك" [Le Monde Diplomatique] الرصينة؛ بل إننا نجد مجلات مُتخصّصة تحديداً في قضايا الشرق الأوسط دون سواه، ومنها شهرية "الشرق الأوسط" Moyen-Orient، والتي خَصّصت ملف عددها للشهر الجاري (أكتوبر/ تشرين الأول) للوضع في مصر، مع غلاف تضمن صورة للرئيس عبد الفتاح السياسي بالزي العسكري. (نقرأ في مضامين الملف، دراسة عن طموحات الرئيس المصري، ودراسة موازية عما تبقى من جماعة "الإخوان المسلمين" بقلم ماري فانيتزل؛ ومن من مواد العدد أيضاً، دراسة عن الصراع الطائفي بين السنة والشيعة في عراق ما بعد صدام حسين، وحوار مطول حول قطاع غزة والمجتمع الفلسطيني). في مضامين العدد الجاري لمجلة "إيسبري" (Esprit) الرصينة، والحديث عن أهم مجلة فكرية فرنسية، نقرأ في عدد أكتوبر/ تشرين الأول مقتطف من حوار مع أوليفيه روا، صدر منذ بضع أسابيع فقط في كتاب للمؤلف يحمل عنوان: "في البحث عن الشرق الضائع"، مع تركيز كبير في مضامين الحوار عن تصاعد أسهم الظاهرة الإسلامية "الجهادية"، وتأثيرها على ما الأوضاع الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط، وصدر الكتاب يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري عن دار "سوي" الفرنسية. تحذير فرنسي للعرب من الأطماع الإيرانية وما دام الشيء بالشيء يُذكر، صدر لجيل كيبل أيضاً كتاب يحمل عنوان "شغف عربي" (أو "عشق عربي")، والعمل عبارة عن مذكرات ومشاهدات الباحث كما عاينها عن قرب في العديد من دول الشرق الأوسط (مصر، السعودية، سوريا، البحرين، قطر، تركيا، اليمن، لبنان..)، وتم تدوينها بين 2011 و2013 (صدر العمل عن دار "غاليمار"، ط 1، 2013)، ويُعتبر كيبل من الأقلام النوعية التي تحظى بمتابعة إعلامية كبيرة داخل وخارج فرنسا، خاصة أن منسوب الصراحة والوضوح في مواقفه أكبر بكثير مما نطلع عليه في مواقف أغلب النخب الفكرية والثقافية هناك، بسبب مقتضى الولاءات والانتماءات، ومن علامات الصراحة والوضوح، تأكيد جيل كيبل في آخر خروج إعلامي، من خلال حوار أجرته معه الأسبوع الماضي يومية "لوموند" أن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط "يتعلق بإعادة تشكيل خريطته المنبثقة عن اتفاقية "سايكس بيكو"، محذراً بشكل غير مبطن، من "استعادة إيران للدور الذي كان لها قبل ثورة 1979 ك"جمركي المنطقة"، وأن الإحالة دون تحقيق هذا السيناريو، قائمة إذا "لم يتم التغلب على الصعوبات المرتبطة بالمفاوضات حول ملفها النووي، واندماجها في المجتمع الدولي، وهو ما يعني صياغة تعديل جديد لخريطة المنطقة". ومادام عامل الطاقة من أهم المحددات التي تجعل منطقة الشرق الأوسط محور تسليط الضوء والتأثير لدى أهم القوى الدولية، توقع كيبل أن "الشرق الأوسط قد تتراجع أهميته العالمية، وقد يفقد مركزيته بخصوص الإنتاج العالمي للطاقة"، من منطلق أن "الولاياتالمتحدة أصبحت مصدرة للغاز كما هو شأن إسرائيل التي ستتحول مستقبلاً إلى مصدرة له". وبكلمة، هناك تباين جلي في مواقف واجتهادات النخبة الفكرية والثقافية الفرنسية من التطورات المؤرقة التي تمر منها منطقة الشرق الأوسط، مع غلبة واضحة لتيار فكري يوالي الدولة العبرية، وحضور متواضع، ولكن لا بأس به، ويَعِدُ بالشيء الكثير، على المدى المتوسط، لنخبة فكرية مضادة، تنتصر للمصالح العربية، وترفض اختزال العرب والمسلمين في صور نمطية استشراقية، ساهمت أحداث الساعة خلال الآونة الأخيرة (الظاهرة "الداعشية" نموذجاً) في تغذيتها، ومع ذلك، يُحسبُ لهذه النخبة المنصفة، أخذ مسافة من الولاء السياسي والإيديولوجي لأهم الرموز الفكرية الفرنسية تجاه إسرائيل، أولاً وأخيراً.