مجريات أي لعبة لا يغيرها الأقوى غالباً، بل الأذكى؛ فهو من يستحوذ على كافة المجريات ويسجل النتيجة لصالحه، جربوا إسقاط هذه المسلمة الواقعية على مجريات الأحداث في أكثر من موقع وعبر حقب التاريخ تجدوا أن النتيجة في كل الحالات لصالح ذلك الذي أعمل فكره وعقله للتعاطي مع كل ما حوله بذكاء وفطنة، لن تكون اللعبة المعنية في محور حديثنا اليوم محددة في الصراعات العلنية البارزة والحروب بين الأمم والشعوب، فتلك نزعة تهلك الحرث والنسل ولا تفضي إلى خير لكل أطرافها حتى من كان يرتجي مكسباً من وقود المعارك وأسلحتها. ورغم أن علماء النفس لا يزالون في حيرة من أمرهم بشأن تحديد التعريف الأنسب للذكاء والذي لا تحدده فحوصات القدرة الذهنية واختباراتها أو حتى سرعة البديهة، فقد تفرع الذكاء وأصبحت له جملة عناوين ومظاهر ما بين سياسي وعاطفي وعلمي وأدبي وغيرها؛ أعتقد أن من أهمها ضرورة الآن في ظروفنا الراهنة هو الذكاء الاجتماعي بعد أن تفرق الناس في ميولهم وفي مقاصدهم وغدت لكل فرقة حماستها الظاهرة ومباهجها التي تغذيها أسس ورؤى تحفزها على التفوق والمضي نحو الصدارة، بل وتزرع أمامها المآثر والنماذج وتستحضر التاريخ وشخوصه من أجل بناء روح الفريق بين الجماعة للتفوق على غيرها، وهو ما يفضي في النهاية إلى جملة صراعات وتداخلات لا يمكن التحكم بمجريات العلاقة بينها، وهذه صورة تتكرر في كل المجتمعات وحقب التاريخ سوى أن الذكاء الاجتماعي الذي استنبطته ثقافة بعض الأمم ربما بعد تجربتها الطاحنة في التناحر والتقاتل هو ما جعل مثل هذه العقلانية واقعا يجب الأخذ به، فالذكاء الاجتماعي ليس له مدرسة محددة تلتزم بمنهاج عملي مجدول سوى أنها شعور حتمي بضرورة التعايش والتعاطي مع الآخر والتفوق على محفزات التغابي المكرسة للعمل على تداخل الشعوب وتحريضها ضد بعضها فقد خسرت البشرية منذ عهود قريبة كما حدث في التقاتل البيني بين دول أوربا؛ خسروا الكثير من ملايين الأرواح والممتلكات سوى أن الحكمة كانت في طمس التعادي والعودة إلى مربعات التجمع والوحدة حتى غدت أوروبا الآن النموذج العالمي الأقرب لمستويات التطور الفكري الإنساني ووحدته، وعليه نستدرك أن الذكاء هو في صناعة محاور التقارب والتعاطي المتبادل للحقوق والواجبات بين الأفراد أولاً ثم بين كل مجموعة أو دائرة تحفل بالشراكة الإنسانية. وهنا قد يقول قائل إن مثل هذه الأفكار تحمل غباء وتنحياً عن الحق أو تنازلا عن قيم موروثة وأحقيات مؤكدة، ولكن ليعلم الجميع أن حرية الفرد تنتهي ببداية حرية الآخرين، وأن ما يصنع الصراعات هو تولد تلك النزعات الموغلة في الأنانية والتطرف وإلغاء الآخر واستحداث مفاهيم رجعية تعود بالإنسان إلى ما قبل الفكر والتشريع؛ فعلاً نحن نحتاج جماعات وأفراد إلى إلغاء نزعات التطرف وميول التبعية الضيقة وتعميم الوحدة مع الناس ومع البشر عموماً، فلذلك مكاسب عالمية تقود البشرية إلى التوسع في الخير والتعاون لمواجهة ظروف أشد وأفتك، إذاً ليس سوى الذكاء الاجتماعي الذي ندعو إلى تعميمه بين الجميع كل في مجاله وموقعه حتى يصار إلى فهم عام يحتم فيه المرء على نفسه ضرورة التعاون والمحبة مع الجميع.