ابنٌ تجاوز الخمسين من عمره، له أولاد متزوجون، ومع كل هذا يظل ابنا صغيرا لدى أمه التي تجاوزت الثمانين عاماً، زرت هذا الابن قبل عدة أيام؛ فوجدتُ رجلا جليلا في خدمة أمه، يجسد صورة الإحسان الجميلة؛ التي تتمثل بقربه لأمه وبره بها وهي تعيش معه في بيته، يصبّحها ويمسّيها، ولتوهما أتيا من العمرة، حيث جلسا قرابة الشهر؛ يطبخ أنواع «الطبخ الشعبي» ويسقيها ويقهويها، الشاي والزنجبيل والحليب، ويهيئ لها كل شيء، يذهبان للحرم معاً ويرجعان سوياً، يمسك بيدها من الشقة للحرم ثم من الحرم للسكن، لوحدهما فقط! إنه أستاذ معروف في الجامعة، لكن ذلك لم يمنعه من هذا الشرف الكبير، ولما لقيته قبل أيام وقد رجع من العمرة وجدتُه فرحا مستبشرا بفوزه بهذا المقام، ويحس بالتقصير، ثم يقول لي شاهد وجه الوالدة، ريان، يبشبش بالفرح والسرور والرضا، جلست معها ابنا وخادما ونديما، لوحدنا بجوار البيت العتيق، ولولا الأسرة والعمل لجلسا أكثر، ولسانه مع أمه لسان الشاعر البحتري: فِدَاؤكَ نَفسِي، دونَ رَهطي وَمَعشرِي وَمَبدايَ مِنْ عَلْوِ الشّآمِ، ومحْضرِي فكم شِعبِ جودٍ يَصْغُرُ البحرُ عندَهُ توَرّدْتُهُ مِنْ سَيْبِكَ المُتَفَجِّرِ وَكمْ أمَلٍ في سَاحَتَيكَ غَرَسْتُهُ فمِنْ مُورِقٍ أذكى النّبَاتِ، وَمُثْمِرِ ألَسْتُ ابنَكُمْ، دونَ البَنينَ، وأنتُمُ أحِبّاءُ أهلي، دونَ مَعْنٍ وَبُحتُرِ أعُودُ إلى أفْيَاءِ أرْعَنَ شَاهِقٍ وأدْرُجُ في أفْنَاءِ رَيّانَ أخْضَرِ أعزائي القراء، تأثرت فعلا لهذا المشهد السامي، الذي يحبه الله ويدني أهله ويرحمهم، مشهد الإحساس والوفاء، مشهد تجسيد البر بهذا المخلوق الذي لا يمكن أن يتكرر في الحياة! الأم، الأم، وكذلك الأب، ليت القارئ العزيز يتأمل هذا الحدث ويلتفت فيما حوله، ويتفقد أمره مع والديه، هل منحتهما جهداً ووقتاً وتفكيراً؟ هل خلوت بهما؟؟ هل فُزتَ بخدمتهما؟ وخاصة الأم؟! هل تعلم أن أنفس الأوقات وأعزها وأحلاها وألذَّها هي في جلستك مع أمك؟! وتأملوا ما تحفل به السير عن أسلاف بررة أوفياء، فعن محمد بن سيرين: بلغت النخلة في عهد عثمان بن عفان ألف درهم، فعمد أسامة إلى نخلة فعقرها فأخرج جمارها فأطعمه أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا؟ وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا أعطيتها. وقال محمد بن المنكدر: "بات أخي يصلي، وبتُّ أغمز «أهمّز» قدم أمي، وما أحبُّ أن ليلتي بليلته، ولما مات عمر بن ذر بن عبد الله بن زرارة قيل لأبيه كيف كان معك؟ فقال: ما مشيت معه بليل قط إلا كان أمامي، ولا بنهار قط إلا كان خلفي، وما علا سطحاً قط وأنا تحته. أعزائي القراء، مهما كان الغنى والمركز والجاه والأشغال؛ فليست عذرا للانشغال عن الوالدين وخاصة الأم، فإن كانت على قيد الحياة فتفيأ ظلها كل ساعة وحين، وكن لها خادما مطواعا، فرحا مسرورا بذلك، فلا تفقدك وقت حاجتها، ولتسبق الآخرين لقضائها، صبحها بالسلام والقهوة، ومسها بالزيارة والجلسة، اشتر لها ما تريد، ولتكن غنية بك بعد الله، عود كل من حولك بر الأم والأب بأفعالك وأقوالك، وليس سرا أن أذكر شخصية هذا الابن الخمسيني؛ فهو ابن الخال والعمة؛ شيخي في الإقراء د. سليمان الغفيص الذي حفظني القرآن صغيرا، وعلمني البر كبيراً؛ فجزاه الله خيرا، وإلى لقاء قادم. أستاذ التوجيه والإرشاد النفسي بجامعة القصيم