يسخر البعض ربما من بضاعة الكلام، ومن رموزه، ومن أصحاب شهوة الكلام، فمن الذي دفع عظماء ورؤساء إلى جنون العظمة ثم دفع شعوبها إلى الدمار إلا إعصار الكلام!، ومن الذي أشعل الطائفية المقيتة في كثير من الدول العربية إلا أحزاب الكلام. فها هي العراق.. وقبلها غزة ولبنان تقدم عشرات ومئات الضحايا والمآسي كل يوم، وتجنى على أراضيها عشرات الكوارث بسبب إعصار الكلام والتصريحات التي تقذف في ثنايا حروفها الدمار والخراب.. ألم يستنزف الكلام عظام الرجال إلى حتفهم ونهايتهم؟!، ألم يلق الكلام شبابا إلى كؤوس اليأس والانتحار والفشل؟، ألم تكن للكلام سطوته وقوته في نفوس الآخرين من رؤساء وعظماء ووزراء؟! ألم يقلب الحق إلى باطل والباطل إلى حق والمظلوم ظالما والكذب صدقا من تجار الكلام وصانعيه؟! فكثير هم الذين تعرف وأعرف ممن ربح دنياه بكلمة أو خسر دنياه بكلمة، أو ارتفع عند الآخرين بكلمة أو سقط من أعينهم بكلمة فما أعظم مسؤولية الكلمة لذا صار اللسان هو المقياس لقياس الناس قديما وحديثا لذا قال زهير بن أبي سلمى: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده لم يبق إلى صورة اللحم والدم وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم كل هذا يحصل بالكلمات.. سحر الكلمات.. سلطان الكلمات.. وروغان الكلمات. نعم إنها الكلمات تلك العبوات الناسفة والرصاصات القاتلة من الحروف التي أودع الله فيها أسرار الشر والخير، فآدم عليه السلام علمه الله الأسماء كلها ليكون حاكما وجامعة لملايين الكلمات يستخدمها ولا تستخدمه، ويصيرها ولا تصيره، ويديرها ولا تديره، فالكلمة أصبحت هي التي تحكم الإنسان، وأصبحت في المقابل حاجبة للعقل بدلا من أن تكون كاشفة للبصيرة، ولعل الكلمات تكون بالغة الوقع حينما تكون شعرا، فالمتنبي الذي فرّ من قطاع الطرق الذين هاجموه ردوا عليه قائلين كيف تهرب وأنت القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم فالشعر عند العرب قديما كانت له سطوته، فهو كالرصاصة التي ربما حركت الجيوش أو أشعلت الحروب، وهي بالتالي ربما خربت البيوت بالطلاق أو قربت بين المتخاصمين. فكم من حروب أشعلت وأسر تفككت بسبب كلمة، وكم من الأموال أكلت وكم من الحقوق ضاعت بسبب كلمة، وكم من المسائل والنصوص زوقت وغيرت بسبب كلمة. فالكلمات عالم مستقل فقد أصبحت في عالم الإعلام والصحافة والعولمة المرئية والمسموعة وشبكات التواصل الآلة التي تؤجج الفتن الحزبية والقبلية، والحروب الدولية بالتصريحات والكلمات والشعارات الارتجالية، وفي المقابل الآلة التي تحرق القلوب وتغوي العشاق وتؤجج المشاعر وتوقظ الغرائز عبر الأغاني الهابطة ومثيلاتها. فالإرهاب الذي تحاربه الدول كلها، والمظاهرات التي تملأ الشوارع من غير رسالة واضحة متزنة مؤججة للعواطف هي في الحقيقة كانت فتيلا وزخات من الكلمات التي لم يحكمها سلطان العقل. لقد دلّل الفقهاء وعلماء المنطق على أن بوابة الحكمة والرزان والنضج هو أن يصاغ المعنى ثم يدلل عليه. ولكن الكثير يخطئون ويزلون حينما يدللون على المعنى بكل مباشرة غير مكترثين من عواقبه ومآله ثم بعد الوقوع في الزلل يفكر ويتأمل فيبدأ بصياغة المعنى. ولعل وضع جهاز للإنذار والتحكم ضروري لمن يملك خاصة حق تقرير مصير أمة أو شعب أو مؤسسة، لذا فمسؤولية الكلمة ومكانتها تظهر في وصية الإسلام بحفظ اللسان، فالكلام لا يطير في الهواء كما تقول العامة، وقيل قديما: «وجرح اللسان كجرح اليد». والمتأمل يدرك أن نوافذ الإعلام والمرتزقة عليه، وزراع الفتنة، والقنوات الطائشة غير المسؤولة، والمجتمع غير الواعي لخطورة الإشاعة ونقل الكلام بلا تبين هم من يؤجج كل حرب سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، ليدرك العاقل حينها أن الكلمة إما أن تكون صدقة وبرا، وإما أن تكون رصاصة وقتلا. * أستاذ مساعد بكلية الآداب -جامعة الملك فيصل