ذكرتُ في المقال السابق كيف أسلم بنو عبدالقيس، وفي تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} قال أنسُ بن مَالك رضي الله عنه: (الملائكةُ أطاعوه في السماء، والأنصارُ وعبدُالقَيس أطاعوه في الأرض) ثم إن بني عبد القيس أرسلوا وفداً إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فساروا ومعهم سيِّدُهم المنذر بن عائذ العَبْدي، وهو الذي سمَّاه النبيّ-ُ صلى الله عليه وسلم- "الأشجّ" لِشَجَّةٍ كانت في وجْهِهِ، فلما دنوا من المدينة، وبينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحدِّثُ أصحابَه إذ قال: (يطلع عليكم من هذا الفجِّ ركبٌ من خير أهل المشرق) فقام عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فتوجَّه نحو ذلك الوجْهِ فلقِيَهُمْ ورحَّبَ بهم، فَلما رأَوا رسول الله- صلى الله عليه- تسابقوا إليه، فمنهم مَن سعى سعيا، ومنهم مَن هرول هرولة، ومنهم مَن مشى، فسلَّموا وقعدوا، أما سيِّدُهم الأشجُّ فأناخَ الإبلَ وعَقَلَها، وطرح عنه ثياب السفر، ثم عمدَ إلى ثوبين كانا في العَيْبَةِ حَسَنَين فلبسهما، ثم أقبل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-، يمشي على تُؤَدَةٍ، فلما دنا، أوْسَعَ القومُ له، وقالوا: هاهنا يا أشج، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: هاهنا يا أشج، فقعد عن يمين النبي- صلى الله عليه وسلم-، فرحَّب به، وقال له: فيك خصلتان يحبهما الله تعالى ورسوله، قال: وما هما يا رسول الله؟ قال: "الحلمُ والأناةُ" قال: أنا أتَخَلَّقُ بهما، أم اللهُ جَبَلَنِي عليهما؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: بل اللهُ جَبَلَكَ عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب اللهُ ورسولُه، ثم سأل عن بلاده، وسمّاها له قريةً قرية، فقال: بأبي وأمي يا رسول الله، لأنتَ أعلمُ بأسماء قُرانا مِنّا، ثم أقبل على الأنصار فقال: (يا معشر الأنصار، أكرموا إخوانَكم، فإنهم أشباهكم في الإسلام، وأشبه شيء بكم أشعارا وأبشارا، أسلَموا طائعين غير مكرَهين، ولا موتورين) ثم علَّمهم أركان الإيمان، ونهاهم عن المنكرات، وكانت صلاة الجمعة قد فُرضَتْ، فلما عادوا لبلادهم أقاموها، قال ابن عباس رضي الله عنه: (إنَّ أوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ بعد جُمُعَةٍ في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، في مسجد عبدالقيس بجواثا) وحين ارتدَّتْ العرب، لم يرتدُّوا، قال الخطَّابي: (فلم يكن يُسجد لله سبحانه على بسيطِ الأرض، إلاّ في ثلاثة مساجد: مسجدُ مكة، ومسجدُ المدينة، ومسجدُ عبدالقيس بالبحرين، في جُوَاثا) فانظر أخي القارئ الكريم كيف ساقهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، بسوط الحبِّ إلى دين الله القويم، فلم ينظر إليهم بعين الرِّيبة والشَّك، ولا بعين الغطرسة والكبرياء، ولا التهديد والتخويف، فلم يَطرد أمَّةً من أرضها، ولم يحرق كنيسةً، كما فعل الصليبيون حين دخلوا فلسطين وأحرقوا اليهود داخل أحد معابدهم، فكان هدْيُهُ صلوات ربي وسلامه عليه، أنْ يتعامل مع غير المسلمين بليِّن القول، رجاءَ إسلامهم، ولم يكن ذلك تصنُّعاً، بل كان خُلُقاً بغير تكلُّفِ، فلم يكن منفِّراً من دين الله، بل كان قلبُهُ صلوات ربي وسلامه عليه، يَفيضُ حبَّاً لهداية الخَلْق، يتجلَّى ذلك في وجهه وفي سائر تصرُّفاته، وقد قيل: ما خامَرَ القلوبَ يَلوحُ أثرُه على الوجوه، وما تُكِنُّه الضمائر يلوحُ على السرائر، قال تعالى: (فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فدلائلُ الحبِّ تُعرَفُ في المُحِبِّ وإن لم ينطق بها لِسانُه: (دلائلُ الحبِّ لا تَخفَى على أحدٍ*** كحامل المسك لا يَخفَى إذا عَبِقَا) فهنيئاً لقومٍ خشعتْ قلوبُهم وأنابُوا لربِّهم، فقال فيهم: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ).