نقف في ناحية، وفي الناحية المقابلة لنا تقف معتقداتنا وقناعاتنا ومبادئنا. والجسر الذي يربط بيننا هو الكلام؛ بمعنى أننا نبرع في الحديث عنها أكثر من البراعة في تحويلها إلى سلوك عملي. يأتي الصيام ليكون الجسر الذي نعبر به إلى الضفة الأخرى، إلى حيث كل ما نعتقد أنه حسنٌ وجميل. يأتي ليلغي الفجوة والهوة، بين سلوكياتنا وبين معتقداتنا وقناعاتنا. عندما يحدثنا القرآن الكريم عن الغاية والحكمة من الصيام؛ بأنها تحقيق التقوى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). ثم هو أيضاً لا يترك التقوى قضية هلامية، بل يعرّف بها عن طريق تعداد صفات المتقين في مواطن متفرقة من القرآن الكريم، فعلى سبيل المثال، يقول الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ). وفي سورة آل عمران -أيضاً- وفي معرض الحديث عن المتقين قال: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17). التعريف بالصفات العملية في القرآن منهجٌ تلحظه، ليس فقط في التعريف بالمتقين، بل في التعريف بالمؤمنين، والمحسنين، والمخبتين، بل حتى في التعريف بالكافرين والمنافقين. ما يجعل النص القرآني في حالة مواجهة ومكاشفة مع قارئه أو المستمع إليه. ويقطع حالة الادعاء الكاذب للمسميات الممدوحة، أو التبرؤ الكاذب للمسميات المذمومة. والقرآن بهذا يعلي من شأن العمل والسلوك الفاضل، ويحط من شأن العمل المشين. ويجعل المدح والذم إنما ينال ويستحق من خلال العمل. أيها الصائم، وأنت تقرأ كتاب ربك فتمر على صفات المتقين، فتش في نفسك وسلوكك، ومدى قربك وبعدك منها. الصيام الجسر الذي يوصلك إلى الصدق؛ لتغادر بذلك في الضفة الأخرى الكذب. والذي يوصلك إلى الصبر؛ لتغادر في الضفة الأخرى الضجر. ويوصلك إلى الإنفاق والبذل؛ لتغادر بذلك الشح والبخل. ويعبر بك إلى الاستغفار والتوبة؛ لتغادر في الجهة المقابلة الذنب والخطيئة. هكذا نجعل من الصيام ميداناً حقيقياً لممارسة صفات المتقين بشكل عملي. ويكون رمضان بهذه المثابة مدرسة نتخرج منها ونحن نحمل مؤهل التقوى المطلوب للنجاة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا). أما إذا لم ينفذ الصيام وتأثيره إلى سلوكنا، فنحن لم نزل -وبعد مرور ثلثي الشهر- كما نحن عليه قبل الصيام، لم نتمكن بعدُ من التخلص من كل سلوك مشين كنا عليه قبل الصيام، فهذا يعني أننا لم نضع بعد أقدامنا على الجسر، لنعبر مع العابرين، فمن الغايات العظمى للصيام هي تعديل وتقويم السلوك (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) البخاري. أما إذا أفلحنا في تحويل صفات المتقين التي نتلوها في القرآن إلى عمل، فهذا يعني أننا عبرنا إلى حيث التقوى، والتي ستعبر بنا إلى المكانة العظيمة والمرموقة، وهي أن يحبنا الله (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ويكون معنا (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).