أحد عشر يوما، مرت على القصف الهمجي الوحشي، برا وبحرا وجوا، على قطاع غزة. وقد تجاوز عدد الشهداء المائتين وعشرين، وأكثر من ألف وخمسمائة من الجرحى، جروح كثير منهم خطرة، وتدمير مئات المنازل. لكن مقاومة شعب، رغم الدماء الغزيرة التي تسيل كل يوم، عصية على رفع الرايات البيضاء. وكان ذلك هو ديدنها، منذ أول احتلال صهيوني لها، في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حتى يومنا هذا. وكانت مقاومتها الضارية للعدوان، قد دفعت بإسحاق رابين، تصويرها أثناء انتفاضة أطفال الحجارة، بكابوس تمنى ألا يستيقظ من نومه إلا وقد غرقت في البحر. لقد شن العدو في السنوات الخمس التي مضت، ثلاث حروب على القطاع، ولم يتمكن من تحقيق أهدافه، وكما فشلت محاولاته السابقة، سيفشل هذا العدوان، ولن يكون بمقدوره هزيمة الفلسطينيين، حتى وإن أقدم على مغامرة الهجوم البري. فالأصل هو أن يقاوم الشعب المحتل، جيش الاحتلال؛ حتى يتمكن من طرده. وقد أكد التاريخ مرات ومرات، صعوبة إخضاع شعب، قرر الإمساك بزمام مقاديره. لقد حدث العدوان الصهيوني على غزة، في مرحلة صعبة جدا بالنسبة للكيان الغاصب. فقد تراجعت دبلوماسيته، ولم يتمكن من إقناع العالم بجديته في التوصل من خلال المفاوضات لتسوية سلمية مع الفلسطينيين. فشلت مفاوضات التسوية التي عقدت بين السلطة الفلسطينية بزعامة أبو مازن، وحكومة الكيان العبري برعاية وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ووصلت المفاوضات إلى طريق مسدود. وقد أدرك العالم بأسره أن فشل تلك المفاوضات؛ يعود إلى تعنت الحكومة الإسرائيلية، وطرحها شروطا تعجيزية: كمطالبة السلطة بالاعتراف بيهودية الكيان الغاصب، وطرح تبادل الأراضي، بما يعني بقاء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ومدينة القدس، ومنح الفلسطينيين أراضي بديلة في صحراء النقب. لقد أراد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنجامين نتنياهو، استثمار حادثة أسر ثلاثة من المستوطنين الصهاينة، وقتلهم من قبل جهة مجهولة؛ لكي يتحول من جلاد إلى ضحية. لكن ذلك لم يحقق ما هدف له. فالصورة ظلت أفصح من كل الادعاءات الصهيونية. تزامنت أحداث ما قبل العدوان، بنهوض شعبي فلسطيني في الضفة الغربية، جعل كثيرا من المراقبين، يرون بأن الأراضي المحتلة على أبواب انتفاضة ثالثة، ربما تكون أكثر عنفا من انتفاضة أطفال الحجارة، وانتفاضة الأقصى. فكان الهجوم الصهيوني على قطاع غزة، هو محاولة بائسة لاحتواء الانتفاضة، قبل اندلاعها. ولا شك أن تدمير القوة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، بعد تنامي أنباء عن نموها السريع، من خلال شن حرب خاطفة، هو من أسباب العدوان. لكن العدو فشل في تحقيق ذلك، رغم أن التوازن الاستراتيجي، وفق الحسابات التقليدية، بين طرفي الصراع، ليس في صالح المقاومة، وكان كذلك هو الحال، منذ احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967. بل يمكن القول إن ذلك لم يكن فقط بين الصهاينة والفلسطينيين. فجيش الاحتلال كما يؤكد هنري كيسنجر، مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي، أعد وجهز؛ لمواجهة الجيوش العربية، وأن يلحق الهزيمة بها مجتمعة. لن يلجم العدوان إلا موقف عربي تضامني قوي في مواجهته، يعمل على وقف الهجمات الوحشية وحرب الإبادة، التي يتعرض لها الفلسطينيون، وإدانة المعتدي، واعتبار الاحتلال هو المعضلة الرئيسية، التي كانت ولا تزال السبب الرئيسي في غياب الأمن والاستقرار في عموم المنطقة. فقد أكدت تجارب الماضي، أن اتفاقيات التهدئة، ليست سوى هدنة مؤقتة، يعقبها عدوان، في دورات متكررة ليس لها نهاية. ينبغي العمل على استصدار قرار أممي، بفرض حماية دولية للفلسطينيين، كخطوة أولى على طريق تطبيق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وفي مقدمتها القرار 242 الذي يرفض استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، والقرارات الأخرى المتعلقة بحق الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير، وقيام دولته المستقلة، كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف، فوق ترابه الوطني. وذلك وحده السبيل للجم العدوان، مرة واحدة وإلى الأبد. الملف السياسي