في مؤشر بالغ الدلالة والخطورة على المكانة التي وصلت إليها الهندسة والمهندسون مؤخراً في المجتمع تذيّلت كلية العمارة والتخطيط بجامعة الدمام – او كادت - قائمة الكليات العلمية في ترتيب اولويات القبول لدى طلاب الثانوية المتقدّمين للجامعة لهذا العام. من يصدّق ان الكلية الرائدة والاقدم في هندسة العمارة والتخطيط بالمملكة قد وصل بها الامر الى هذا الحد.. ولكن هل تُلام الكلية على هذا الوضع؟. توجّهات الطلبة واولياء امورهم والمجتمع عموماً امور تحدّدها الثقافة ويبدو واضحاً ان هناك عزوفاً بيّناً من الناس تجاه الهندسة كتخصص مهني.. ويبدو وعلى مقولة اخواننا المصريين ان «الباش مهندس» لم يعد التخصص الذي كان صاحبه يوماً ما يفاخر به. الهندسة هي ببساطة مجموعة العلوم والفنون والمعارف التي يمكن عن طريقها بناء الحضارة المادية للانسان.. فبدون هندسة لا يمكن بناء حضارة مادية. الهندسة مطلب حضاري لا يمكن للمجتمع الاستغناء عنه وإلا لأصبح عاجزاً عن بناء مسكنه ومدينته ودولته وحضارته. وتاريخ الانسان على هذه الارض هو تاريخه في بناء الحضارة. والهندسة في قلب هذه الحضارة. وبما ان الامر كذلك فإن الهندسة باختلاف تخصصاتها بريئة من هذا العطب الذي اصابها.. ولنا في بقية دول العالم القريب منه والبعيد امثلة حيّة على ذلك. اذ يجب البحث عن سبب تدهور وضع الهندسة وحال المهندسين في الثقافة المحلية وتحديداً في طريقة ادارة الهندسة في كافة مفاصل العمل الهندسي على مستوى الدولة والفرد والمجتمع. يتساءل العابر لبلادنا من اقصاها الى اقصاها: اين مهندسو هذه البلاد؟. ونحن نحتفل هذه الايام باليوم الوطني للمملكة.. اين المشاريع الهندسية العملاقة التي يمكن ان يفاخر بها البلد في ذكرى يومه الوطني؟ انظر الى سماء مدننا وستراه افقيا منذ عرفناه شيباً وشباناً.. يقول آخر: لا تنظر فوق.. انظر تحت.. الى حال الطرق والمرور والانفاق، لترى أي مستوى وصل اليه حال الهندسة والمهندسين.. انها فعلاً حالة اقل ما يقال عنها انها بعيدة كل البُعد عن طموحات بلد بحجم ومكانة المملكة وطموحات شعبه ومسؤوليه.وبما اننا بدأنا حديثنا بالجانب التعليمي فإن التعليم الهندسي مسؤول مباشرة عن ذلك.. لكن التعليم انعكاس مباشر للممارسة فاذا صحّت الممارسة صحّ التعليم والعكس صحيح.. مشكلة التعليم الهندسي في المملكة انه تعليم نظري وقد حوّلته البيروقراطية المستشرية الى مرفق حكومي بحت واصبح اساتذة الجامعات المهندسون مجرد موظفين حكوميين بكل ما تعني الكلمة من معنى. وفي مجال الممارسة فإن غالبية المهندسين السعوديين موظفون حكوميون. ولان الثقافة البيروقراطية المتأصلة تمنع المهندس من ممارسة عمله الهندسي خارج نطاق وظيفته الحكومية فإن المهندس يتحوّل بمرور الايام الى كائن بيروقراطي شأنه في ذلك شأن المؤسسة البيروقراطية التي تديره. ينطبق هذا القانون الحتمي على كافة خريجي كليات الهندسة العاملين ضمن ديوان الخدمة المدنية، كأمناء المناطق، رؤساء البلديات باختلاف فئاتها، مدراء الدوائر الهندسية في كافة مرافق الدولة وهذا خلق كثير. معاناة المهندس السعودي اكثر من ان يُحاط بها في مقال واحد.. بداية فان مرتب المهندس الحكومي لا يتناسب مع مسؤوليته.. يشتكي كثير من المهندسين – وهم على حق - من ضعف المرتب الشهري في وقت يديرون فيه مشاريع بالملايين.. وكيف يمكن ان يُطلب من المهندس ان يكون مبدعاً. في ظروف كهذه تفقد الهندسة معناها ويصبح من الجور مطالبة مهندسينا بأكثر مما يحتمل في ظروف عمل لا تتناسب مع طموحاتهم المهنية والمعيشية. ان معاملة المهندس معاملة الموظف الحكومي توجّه ضد طبيعة عمل الهندسة والمهندسين. الهندسة تخصص قائم على الابتكار والتجديد حتى في اضيق تخصصاتها. غير ان الوظيفة الحكومية كما تمت تجربتها لدينا على مدى اكثر من نصف قرن – وفي كثير من الحكومات المتضخّمة في عدد من بعض دول العالم - تفقد المهندس هذه الخاصية وتحوّله بفعل منطق الجهاز البيروقراطي المتضخّم وآليات عمله الى تقني ومنفذ اكثر من ان يكون مبتكراً ومبدعاً.. وهنا يصح القول ان «فاقد الشيء لا يعطيه». الهندسة مثلها مثل أي نشاط حيوي في المجتمع بحاجة إلى جهة منظمة لها. وبالرغم من الجهد الذي قامت به هيئة المهندسين في عمرها الوجيز نسبياً، إلا ان هناك قائمة طويلة من الانتقادات تطالها.. كثير من هذه الانتقادات صحيحة الا انه يجب ايضاً التسليم بتفشي روح الاتكالية وحب التشكّي مع القدرة على التطوير. هذه سمة ثقافية (وكمعظم مشاكلنا المزمنة، وكادر المهندسين واحد منها) هي بحاجة الى وقت ووعي لكي يتم تجاوزها. ربما كانت المشكلة الاهم التي تواجه الهيئة انها جهاز يفتقد الى السلطة التنفيذية والدعم المالي المباشر من الدولة.. الى الآن ما زالت الهيئة مؤسسة مجتمعاً مدنياً تحاول ان تؤسس قواعد ممارسة المهنة في محيط من البيروقراطية المتاصلة ثقافياً وهي مهمة في غاية الصعوبة. يتساءل العابر لبلادنا من اقصاها الى اقصاها: اين مهندسو هذه البلاد؟.. ونحن نحتفل هذه الايام باليوم الوطني للمملكة.. اين المشاريع الهندسية العملاقة التي يمكن ان يفاخر بها البلد في ذكرى يومه الوطني؟ انظر الى سماء مدننا وستراه افقياً منذ عرفناه شيباً وشباناً. يقول آخر: لا تنظر فوق.. انظر تحت.. الى حال الطرق والمرور والانفاق لترى أي مستوى وصل إليه حال الهندسة والمهندسين.. انها فعلاً حالة اقل ما يُقال عنها انها بعيدة كل البعد عن طموحات بلد بحجم ومكانة المملكة وطموحات شعبه ومسؤوليه. [email protected]