يعتمد رقي الأمم وتطورها على كيفية إدارتها لمواردها الطبيعية والبشرية بحيث يتم استغلالها بشكل يعظم معه رأس المال الوطني، مع مرور الزمن ومهما كان حجم الموارد الطبيعية أو نوعها، إلا ان الإنسان بما يمثله من سلوكيات وخبرات عملية وعلمية يبقى جوهر قضية التنمية ومحور اهتمامها الأساس، هو المدير، وهو مستخلف من قبل الله عز وجل في إمكانه تحقيق الثروة وزيادتها مهما كانت الموارد الطبيعية المتاحة محدودة، والأمثلة حولنا على ذلك كثيرة في عالم اليوم. ومن اجل تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الثروة الوطنية تنتهج الخطط التنموية للشعوب المتطورة وحديثة التطور مسارات واستراتيجيات تهدف إلى زيادة معدلات الاستثمار وتوجيهها توجيها صحيحا في شكل استثمارات ورؤوس اموال منتجة في القطاعات الاقتصادية الواعدة. ولا تقتصر عوامل نجاح الجهود التنموية على امكانية الحصول على رؤوس الأموال وتلبية الاحتياجات التمويلية لاقامة المشاريع الانتاجية والصناعية فقط، ولكنها تعتمد كذلك على تكلفة هذه الأموال ومصادرها، إذ يجب ان يراعى عند اختيار مصادر رؤوس الأموال الموازنة بين كلفتها ومردودها الاقتصادي والاجتماعي. وقد كثر الحديث مؤخرا عن ضرورة تكثيف الجهود لجلب رؤوس الأموال الاجنبية واهمية اللجوء إلى مصادر التمويل الخارجية في حين تم اغفال الحديث عن تشجيع الادخار المحلي وعن دوره في تمويل التنمية وكيفية الاستفادة من المصادر التمويلية الداخلية للنهوض بالاقتصاد الوطني. وعلى الرغم من أهمية التمويل الخارجي لما يجلبه من خبرات وتقنيات واساليب ادارية حديثة والتي لا يمكن انكارها أو تفاديها الا ان هذا التمويل وبشكل عام يجب ان يأتي بعد مرحلة استنفاد جميع الجهود لاستغلال المدخرات المحلية ورفع نسبتها وتوظيفها بشكل كامل وفاعل، فالتمويل الخارجي ، عندما يأتي في شكل اقتراض خارجي سوف يكون له في بعض الحالات آثار على ميزان المدفوعات للدول المضيفة ويعمل على تفاقم العجز فيها ما ستترتب عليه في النهاية آثار تضخمية غير حميدة، خاصة في الدول الفقيرة في مواردها البشرية والمدربة كما انه يمثل كلفة حقيقية على الاقتصاد الوطني، على عكس الاقتراض الداخلي الذي تعد فوائد الديون فيه تحويلات داخل الاقتصاد، لذا فان المخططين والاقتصاديين يسعون جاهدين إلى مراقبة حجم الديون الخارجية العامة منها والخاصة، وذلك خشية ان تنزلق اقتصاداتهم في مصايد الديون التي عانت منها دول كثيرة خلال العقدين الاخيرين من القرن العشرين، وحتى عندما يأتي التمويل الخارجي في شكل استثمارات اجنبية مباشرة فانه لا تزال هناك محاذير قائمة يجب رصدها ومعالجتها إذا لزم الأمر. هناك حاجة ملحة لتوعية المواطن باهمية الادخار وتوجيه مدخرات القطاع الخاص إلى الاستثمار في الداخل وتقليل الانفاق خارج نطاق دول الخليج العربية، وبالطبع فان الادخار لن يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني من دون وجود قنوات تعمل على تمويل المشروعات الانتاجية وتكون وسيطا بين المدخرين والمستثمرين الذين يعملون على بناء المشاريع المربحة، وهذا يؤكد ضرورة تطوير اسواق المال الحافزة على الادخار والاستثمار.في هذا الصدد يقول الدكتور مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا السابق والحائز على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام لعام 1996، «ان بلادنا لابد ان تكون لها السيطرة على ثرواتها لكي تواصل تقدمها الاقتصادي» وقد قال ذلك وهو بصدد بدء حملة للادخار، كما أكد «ان ارتفاع مدخراتنا فيه امان لنا من الهزات المالية» ويقدر الادخار في ماليزيا بأنه في حدود 29 سنتا من كل دولار من الدخل وهو نسبة أعلى في الصين وسنغافورة. تبين المعلومات المتوفرة من صندوق النقد الدولي حول الاستهلاك ان دول الخليج العربية هي دول مستهلكة في الدرجة الأولى، إذ يمثل الانفاق الحكومي فيها نسبة عالية من الناتج المحلي الاجمالي إذا ما قورن بالدول حديثة التصنيع أو الدول الكبرى السبع، ففي الفترة بين 1986 1995 بلغ متوسط الانفاق الحكومي 31 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي. بينما بلغت تلك النسبة في دول جنوب شرق آسيا 10 بالمائة وفي الدول الكبرى السبع بلغت نحو 18 بالمائة. اما نسبة الاستثمارات من الناتج المحلي الاجمالي وللفترة نفسها فقد بلغت في دول الخليج نحو 20 بالمائة في حين انها بلغت في جنوب شرقي آسيا 34 بالمائة. وخلال الفترة ما بين 2000 2008م انخفض متوسط الانفاق الحكومي في دول الخليج إلى ما نسبته 18.7 بالمائة من الناتج المحلي، بينما ارتفعت نسبة الاستثمارات من الناتج المحلي الاجمالي لتلك الدول إلى ما نسبته 21.3 بالمائة. عند مقارنة الادخار والاستثمار المحلي بين دول الخليج ودول جنوب شرقي آسيا للفترة ما بين 1986 1995م نجد ان دول الخليج العربية تدخر وتستثمر نسبة اقل من ناتجها المحلي الاجمالي إذ ان معدل الادخار نحو 26 بالمائة والاستثمار نحو 20.3 بينما بلغ هذان المعدلان 35 بالمائة و33.9 في دول جنوب شرقي آسيا، وهذا بالطبع ينعكس على ارقام النمو التي حققها اقتصاد هذه البلدان، ففي دول الخليج العربية كان معدل النمو للفترة المشار اليها في حدود 5 بالمائة اما في دول جنوب شرقي آسيا فان النسبة وصلت إلى نحو 14 بالمائة. وعلى الرغم من ان الفترة المشار اليها شهدت معدلات انفاق عالية في مجال التنمية الاساسية وزيادة الطاقات الانتاجية للاقتصاد في دول الخليج العربية، الا ان نسبة المدخرات قد تدنت وانخفض معدل الاستثمارات المحلية تبعا لذلك، ويمكن دراسة الحالة الصينية كمثال على نجاح سياسة الادخار والاستثمار المدبر بالاطلاع على الدراسة التي اعدها البنك الدولي. وإذا ما اخذنا في الحسبان ان اقتصادات المنطقة لا تزال تعتمد بشكل كبير على تسييل الموارد النفطية التي هي بمثابة أصول ناضبة، فان ذلك يدعونا إلى التنبيه إلى أهمية اثارة هذا الموضوع الحيوي والتأكيد على ضرورة العمل على زيادة الاستثمار في القطاعات الانتاجية المختلفة وهو ما يتطلب تضافر الجهود لتخفيض الاستهلاك بنوعيه: العام والخاص والعمل على زيادة المدخرات المحلية نظرا لاهميتها بوصفها مصدرا لتمويل الاستثمارات المجدية. هناك حاجة ملحة لتوعية المواطن باهمية الادخار وتوجيه مدخرات القطاع الخاص إلى الاستثمار في الداخل وتقليل الانفاق خارج نطاق دول الخليج العربية، وبالطبع فان الادخار لن يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني من دون وجود قنوات تعمل على تمويل المشروعات الانتاجية وتكون وسيطا بين المدخرين والمستثمرين الذين يعملون على بناء المشاريع المربحة، وهذا يؤكد ضرورة تطوير اسواق المال الحافزة على الادخار والاستثمار.