بيش» و«بيش» قريتان حالمتان ناعستان تنامان بعد صلاة العشاء.. وتصحوان مع تباشير الفجر الأولى.. الأولى ولدت بها. وامتلأت عيناي ورئتاي بتراب وعج أرضها.. واصخت السمع طويلا إلى رعودها وغضب سيلها الجارف الذي لا يبقي على شيء.. ووقفت بقدميّ الصغيرتين الحافيتين على تلالها – أرقب بارق الجنوب ونسمات الجنوب الباردة.. وأغتسل بهوائها الرطب.. وأتأمل سنابل القمح تنمو ومعها رؤوس البشر المتعبين الذين احسن وثاقهم بطين أرضهم فلا هم ينفكون عنها ولا هي تنفك عنهم.. إن الناس ترى جيدا ما خلف تلك الغيوم الداكنة وتستشعر قدوم المطر وتشم رائحة الغيث وهو في السماء.. «قبل ان يهطل ويغسل احزان اهل الارض وجدبها.. وتلك عادة موروثة في سهول الجنوب وجبالها.. إننا نرى رحمة السماء ونتفاءل بها.. وحتى في سنوات الجفاف والجدب.. كنا نعرف ان أرضنا الطيبة لم تفض بعد بكل كنوزها واسرارها.. وعشنا متآلفين متحدين مع جلدة ارضنا وقسوتها.. فما عادت الرمضاء تحرق اقدامنا.. ولا لهيب الشمس وأشعتها الحارقة تصلي رؤوسنا الشعث.. نحن ابناء الشمس القادمون من لهيب النار ما عاد شيء يهمنا حتى الامراض بكل انواعها.. تآلفت مع أديمنا فلا المتصدع ولا المتحجر ولا حمى الضنك ولا غيرها.. تؤثر في اجسادنا.. لقد عشنا.. وكبرنا وحملتنا اقدامنا.. ونحن لا نعرف حبة الدواء كنا نعالج جروحنا وآلامنا بأوراق السدر وعشب الارض وغصون الاراك.. وكان الموسرون منا يحتسون "مرقة الديك" عندما يمرضون.. فينتشون وينهضون ويقفزون كأحصنة الشيطان.. لقد علمتنا ارضنا كيف نطهر المرض.. والجوع والالم.. وعندما ابتسمت الدنيا.. واصبح لأجسادنا.. ورؤوسنا اردية ولأقدامنا احذية.. وعرفنا المستشفيات الكبرى وكل انواع الدواء.. واصبح لدينا اكبر مركز للملاريا في الشرق الاوسط.. عرفنا المرض.. وخفنا من المتصدع.. وحمى الضنك وانفلونزا الطيور.. نحن الذين اتحدنا ذات يوم مضى مع كل كائنات الارض وحشراتها وكواسرها.. وطيورها.. اصبحنا نخاف من اسراب الحمام.. نحن المتآلفون مع البعوض الذي يتكاثر ويتوالد ويتناسل مثلنا في ارض الجنوب.. اصبحنا نهرع هلعين وجلين الى ابواب المستشفيات من لسعة "بعوضة".. لقد رحل زمن اليقين.. وبقي زمن الخوف.. ونخر في اجسادنا الوهن.. لقد استبدلنا القوة بالضعف.. واليقين بالقلق والصبر بالخوف.. استبدلنا كل شيء.. نحن القادمون من ذلك الزمن العتيق لازلنا نحن ونعشق ايامنا.. الحافية.. العارية.. ونرى الارض كلها جنوبا حتى لو ارتحلنا الى آخر الدنيا!! اما "ببيش" الثانية في اقصى الغرب في المانيا التي عشت فيها بضع سنوات من عمري.. فهي ليست مني ولست منها.. لقد تركتها خلفي بكل مراتعها الخصبة وغاباتها.. وحدائقها ووجوه اهلها الحمراء.. حتى غزلانها التي يرعبها الضوء.. ما عدت اعرفها.. لانها لم تعرفني.. انا القروي القادم.. من لهيب الشمس وحقول البرسيم ونداء عشاق المطر.. كيف يمكنني التعايش مع "عولمة" لا افقهها.. ولا اعرفها.. ولم تحس يوما بألمي.. ولا ازيد..