لا شكَّ في أنَّ الشعر الصوفي يمثِّل منعطفا فنِّيًّا وموضوعيًّا في التاريخ الشعري العربي لدرجة أنَّ الشعر الحديث يجد فيه مبرِّرا تاريخيا لوجوده وجذورا قديمةً لانبثاقه، لكنَّ الشعر الصوفي الذي مثَّل في عصره ابتكارا شعريا كما أسلفت كان يهجس بالعقيدة الصوفية أو المنهج العرفانيِّ في الوصول إلى الله، ولم يتفتح على الحياة من جميع أطرافها كما يجب على الشعر أن يكون، وربما أذهب إلى ما هو أعمق من ذلك وأزعم أنّ التعبير عن الحالة الصوفية العرفانية هو تعبير واحد سواءً جاء شعرا أو نثرا، حيث المصطلحات هي المصطلحات، وقاموس المفردات هو نفسه القاموس الذي تناوله شعراء الصوفيَّة جميعا كالحلاج وابن عربي وابن الفارض وغيرهم.. تصوُّف القصيدة مصطلح يحمل في طياته مفهوم التصوُّف الشعري المرتبط بالحياة على رحبها وليس بالعقيدة فقط وإن كان (ابن الفارض) أعمقهم في موهبته الشعرية. ومما لا شكَّ فيه أيضا أنَّ قصائدهم كانت مرايا عاكسة لحياتهم القائمة على عقائدهم الصوفيَّة التي آمنوا بها ودفعوا أرواحهم قرابين على مذابحها، لذلك جاءت تلك القصائد مؤثرة وعميقة وتحوَّلت إلى ثقافة إنسانية. لكنَّ السؤال الآن هو : هل نحن نحتاج إلى قصيدة التصوّف أم إلى تصوُّف القصيدة؟ والفرق بين هذين المصطلحين شاسع وكبير، فقصيدة التصوُّف كما عرفناها في تاريخنا الشعري تحمل مفردات القاموس الصوفي وتراكيبه الفنِّيَّة وروحانيَّته العميقة وهي تتحدَّث في محورها عن العقيدة الصوفيَّة. أما تصوُّف القصيدة فهو مصطلح آخر يحمل في طياته مفهوم التصوُّف الشعري المرتبط بالحياة على رحبها وليس بالعقيدة فقط. هذا المفهوم يعني أن يتَّحد الكاتب بالمكتوب ويتوحَّد الشاعر بالقصيدة في حالة صوفيَّة حتى لو كان الشاعر يكتب عن القمامة المرميَّة في الشارع، أو مياه الصرف الصحيّ التي تطفح بالحوالب والمثانات، وليس عن علاقة الخالق بالمخلوق.