كلما تقدمتُ في العمر أكثر .. فقدتُ أحبابا أكثر .. كلما فُجعت فيمن كانوا في قاموسي الخاص جدا ثقاتٍ أكثر .. اكتشفت مزيدا من المزالق التي لا تصمد فيها أقوى الأقدام، حتى أكاد أن أصدق من قال: «المصلحة الشخصية هي الصخرة التي تتكسر عليها أقوى المبادئ»!! لولا ثقتي الكبرى بمبادئ ديني، وأن لله رجالا ونساء اصطفاهم على مر العصور، لا يرتضون بغيره ربا؛ لا جاها، ولا مالا، ولا شهوة!! حين كُلفتُ بمسؤولية جديدة بدلا ممن كان يقوم بها، رغبة من إدارتي في التجديد، وربما في التغيير، وربما في نمط جديد في القيادة بلا مفاضلة، توجهت إلى المكتب فوجدت المسؤول السابق لا يزال على مكتبه، فسلمت عليه بحرج، وجلست أتحدث معه عن أمور شتى، ولم يبدُ منه أنه يعلم بأي شيء، فتلوت قول الله تعالى: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}، وأبديت له حقيقة شعوري من هذا التغيير الذي لم يؤخذ فيه رأيي، فلما علم متفاجئا بالخبر، قال لي بثقة ورضا: خيرا إن شاء الله، أعانك الله تعالى، ثم التفت بهدوء إلى أجزاء المكتب التفاتاتٍ ثريةَ بروحه الرائعة الطهور، وهو يشير إلى كل موجود من الموجودات أو ملف من الملفات وماذا عليّ أن أفعل معه وبه، ثم قال لي: سوف أزورك كل يوم بإذن الله تعالى خلال الفترة الوجيزة القادمة لعلي أجيب عن تساؤل يتبادر لك.. وفعل بصدق وحب، حتى أصبحت أشتاق إلى رؤيته، وأسكب بين يديه الأسئلة التي قطفتها من احتياجات العمل اليومية، فيجيب عنها بكل أريحية، ثم يودعني وينصرف، وينصرف قلبي معه. ذات صباح التفتُّ إلى ما تحت زجاجة المكتب فرأيت فيه ورقة صغيرة قد كتبت بحبر قديم؛ تقول: إن المناصب لا تدوم لواحد. إن كنت لا تدري فأين الأول؟ فاعمل لنفسك في الحياة فضائلا. فإذا عزلت فإنها لا تعزل. هزتني من الأعماق، علمت جيدا أن صاحبي كان أكبر من منصبه بكثير، ولذلك تركه دون أن يشعر بأنه فقد معه جزءا من شخصيته، وربما كان تأثيره الساحر هو السبب في استقالتي من هذا المنصب بعد ثلاث سنين؛ لأتركه لآخرين، يمرون بالتجربة نفسها. ليت غيره من أهل المناصب عملوا على استثمار الدقائق التي يعيشونها للتطوير لا للتزمير، وللبناء لا للدعاية والإعلام، ولخدمة الناس لا لاستذلالهم، ولتقديم الأحق والأولى لا لجمع أكبر قدر من المعارف والخلان، ليتهم علموا بحق هذا الوطن عليهم فأضافوا إليه مشروعا أو منجزا، لا بروزا شخصيا، على حساب المنتج؛ أيا كان بشرا أو حجرا!! كثيرون يدعون بأنهم إذا وصلوا إلى المناصب فعلوا وبنوا وطوروا فإذا وصلوها لهوا بأنفسهم عنها!! كثيرون يطلبون من الآخرين نصحهم، فإذا دخلوا قفص الكرسي العجيب أغلقوا على أنفسهم منافذ النصح، فكيف تنصح من لا تراه، أو من لا يتيح وقتا للقياه، أو من لا يرد حتى على رسائلك، فضلا عن اتصالاتك؟! أو من يبرر لكل خطأ يقع فيه؟ أو يتشكك في نوايا الناصح قبل أن يتثبت؟! ربما كان الانغماس في تنفيذ الأعمال، والانشغال عن (التفويض الإداري)، وعدم وضع الرجال في أماكنهم المناسبة، أسبابا لتراكم الأعباء، وضعف التواصل بين الإداري وموظفيه، ولكنها لا تصلح أن تكون أعذارا مقبولة.. (قف واشحذ المنشار)، يا لها من وقفة يحتاجها كل مسؤول؛ ليجالس أكثر موظفيه رغبة في الانتقاد، وأكثرهم دقة وبصيرة في تفقد دقائق الخلل، ليصلح الشق قبل أن يسقط الجدار. أما المصفقون، والمؤمنون، فلن ينفعوه قطميرا، لن يتقدم بهم أنملة واحدة، لأنهم لا يتحدثون في غير ما يريد، ولا يخبرونه إلا بما يعلم، ولا يفعلون إلا ما به أمر، فأين الإضافة؟ إن تقريب هؤلاء، وإبعاد أولئك، لن يزيد المؤسسة إلا خبالا وضعفا وتراجعا؟! ألا ترى أن أي مسؤول يقرأ مثل هذا الكلام الصريح، ثم يلقيه على كتف أي ظن من الظنون ليزيحه عن كاهله، يخادع نفسه؟ إنه لا يريد أن يتغير، ولذلك لا يحب أن يقرأ ما يدعوه إلى أن يتغير. [email protected]