في مسيرة التنمية التي مرّت بها البلاد هناك مؤشرات حقيقية على خلل واضح في ترتيب سلم الاولويات سواء على مستوى التخطيط او التنفيذ او المتابعة. فقد اعلن الاسبوع الماضي حسبما ورد في وسائل الاعلام عن النية لبناء 16 مفاعلاً نووياً بحلول عام 2030 بتكلفة تصل الى ثلاثمائة مليار دولار. بعيداً عن التكلفة الباهظة لهذه المحطات والمدة الزمنية لإنشائها فإنه من حق أي دولة ان تنشئ أي مشروع تراه يخدم اهدافها سواء أكانت تلك اهدافا تنموية او سياسية او جيواستراتيجية. غير ان الاعلان عن انشاء هذا المشروع العملاق على وجه التحديد في هذا التوقيت بالذات له تبعاته السياسية والتنموية والجيواستراتيجية على البلاد. بقدر الفوائد الجمة التي اوجدها «التعليم الالكتروني» إلا انه قد ساهم في صنع صورة غير حقيقية عن المدرسة او الجامعة، كما انه قد ادى الى تفشّي الكسل وانعدام الهمة في التحصيل والبحث. على سبيل المثال فقد تعلم الطالب انه بمجرد ضغطة زر على ايقونة احد برامج الترجمة الفورية بامكانه ان يترجم بحثاً كاملاً من العربية الى الانجليزية او العكس من دون ان يعرف ان يكتب جملة واحدة مما ترجمه له التعليم الالكتروني. بداية فإن بلادنا، ولله الحمد، تسبح على برك عائمة من النفط المصدر الاول والاسهل والاقل تكلفة والاكثر فاعلية من مصادر الطاقة الاخرى، وبالتالي فإن استحداث مصادر اخرى نووية كانت ام شمسية يبقى خياراً غير مناسب تماماً لبلد يتفجر نفطاً. اما القول ان النفط سينضب وان النفط ملوث للبيئة وهما رأيان مشروعان تماماً الا انه بالإمكان الرد عليهما.. ففيما يتعلق بنضوب النفط فمن المعروف انه لا يمكن التنبؤ بموعد محدد لنضوبه وكل ما يتم تناوله في الاعلام ليس الا من باب التكهنات. اما القول بمسؤولية النفط عن تلوث البيئة فان الجشع الانساني ومستويات الاستهلاك الرهيبة للطاقة واسلوب حياة العالم الغربي هي المسؤولة عما تلفظه مصانع وعوادم سيارات الولاياتالمتحدة اكبر ملوث في العالم. من الناحية السياسية وحتى قبل ان يتم مجرد التفكير في وضع حجر الاساس للمشروع بل ومنذ مدة طويلة والصحف الغربية ما فتئت تكيل الاتهامات للمملكة بأنها تنوي دخول النادي النووي وما يعنيه ذلك على مستوى السياسة الدولية. ان التبعات السياسية لهذا المشروع ناهيك عن جدواه الاقتصادية باهظة الثمن. ولنا في ملف ايران النووي مثال واضح لما يمكن ان تؤول اليه الامور من قبل الصحافة الغربية المغرضة التي لا تنظر الى الدول العربية والاسلامية الا من باب مدى علاقتها بإسرائيل. واذا كان المشروع غير مجدٍ اصلاً فلماذا تحمل تبعاته السياسية اصلاً. اما من الناحية الجيواستراتيجية فان الطاقة النووية اليوم قد اصبحت مثار نقد كبير من قبل خبراء الطاقة والسياسة وهي في طريقها لأن تصبح شيئاً من الماضي لأسباب وجيهة. فالطاقة النووية مكلفة، كما ان تشغيلها يتطلب خبرة تقنية عالية التدريب.. الا ان الخطر الاكبر منها يتمثل في الحوادث التي تصيب المفاعلات النووية اما بسبب اخطاء بشرية او بسبب كوارث بيئية، كما حدث مؤخراً لمفاعل فوكوشيما في اليابان. هكذا ففي الوقت الذي يولي العالم ظهره للمفاعلات النووية يبدو انها في طريقها إلينا. غير ان انشاء المفاعلات النووية السلمية ليس سوى مظهر واحد من مظاهر اختلاف سلم الاولويات لدينا الذي يبدو مقلوباً في كثير من الاجهزة الحكومية. ترتيب سلم الاولويات يعني الاخذ بمنهج التخطيط المنهجي المدروس المبني على اسس علمية تأخذ من المصلحة العامة هدفاً اساسياً لها، ويوظف لهذا المنهج هيكلاً ادارياً لا يتاثر البتة برحيل الافراد ومجيئهم. هذا هو الجهاز الاداري الناجح. ولو امعنا النظر في توجّه اولويات التنمية لدينا داخل الاجهزة الحكومية فإننا سنقف على صور كثيرة لاختلاف ترتيب سلم الاولويات. ففي التعليم العام والجامعي ومع وصول التقنية الحديثة وشبكة الانترنت قفز ما يسمى ب «التعليم الالكتروني» وكل ما يتصل به من امور الى الصدارة. اما العملية التعليمية الصلبة فاقرأ عليها السلام. التعليم العام والجامعي قبل كل شيء هو طالب ومنهج واستاذ.. اما «التعليم الالكتروني» فليس سوى وسيلة لخدمة أي من هذه العناصر الثلاثة.. غير ان المشكلة لدينا ان الاهتمام بالوسيلة طغى على العناصر الثلاثة وانزوت العملية التعليمية برمتها الى الهامش. صحيح انه يجب استغلال التقنية الحديثة فهي نعمة من الله لكن الارتقاء بالوسيلة الى مصاف الاولويات على حساب الاصل هو خلل في سلم ترتيب الاولويات. وبقدر الفوائد الجمة التي اوجدها «التعليم الالكتروني» الا انه قد ساهم في صنع صورة غير حقيقية عن المدرسة او الجامعة، كما انه قد ادى الى تفشي الكسل وانعدام الهمة في التحصيل والبحث. على سبيل المثال فقد تعلم الطالب انه بمجرد ضغطة زر على ايقونة احد برامج الترجمة الفورية بإمكانه ان يترجم بحثاً كاملاً من العربية الى الانجليزية او العكس من دون ان يعرف ان يكتب جملة واحدة مما ترجمه له التعليم الالكتروني. لا عجب اذن في ان يكون (الانجليزي) مشكلة وطنية يجب ان تؤرق مسئولي التربية والتعليم لدينا.. هل هذا هو ما نريده لأجيالنا الصاعدة؟ ألسنا بحاجة ماسة إلى إعادة ترتيب سلم الأولويات لدينا؟. [email protected]