أوضح وزير العدل الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى أن التشريع الجنائي الإسلامي يعتمد تدابير وقائية وإصلاحية وعقابية متنوعة، وأن الواقعة الجزائية يتم النظر إليها إصلاحياً كما يتم النظر إليها عقابياً، بما يحفظ أمن المجتمع، ويعيد تأهيل المدان. جاء هذا خلال حديثه أمس الأول لعدد من الفعاليات: "الأكاديمية والحقوقية والقضائية الأمريكية" : قائلاً : هناك عقوبات إصلاحية، وأننا نُفضل في مراجعاتنا الأخيرة أن نسميها كذلك، لأن العقوبة يجب احترام نصها التشريعي أو سابقتها القضائية في نطاق مبدئها المستقر، ولا سلطة تقديرية في مقابل النص أو السابقة. وإذا كان لا يوجد عقوبة منصوصة أو سابقة قضائية تحكمها فلا مجال من حيث الأصل للتعبير بكلمة البديل، ومتى اقتنع القاضي لظروف معينة استجدت في بعض الوقائع أن يخرج بها عن السابقة القضائية فهذا الموضوع يأتي في إطار الاجتهاد الجديد الذي يتطلب العدولُ به عن المبدأ القضائي السابق المستقر استيفاء ترتيب معين في نظام السلطة القضائية. ونفهم من هذا أنه لا يمكن أن نعدل عن العقوبة المقررة في السابقة القضائية بغير هذا الأسلوب. أما النص التشريعي فلا يجوز العدول عنه بأيِّ بديل في أي حالٍ من الأحوال، على أن البعض يرفض كما في كتاباتهم الأكاديمية أن يوصف العمل الخيري أو عموم العمل الشريف بالجزاء ويَمنع ربطه به ليبقى على معناه النبيل وصورته الذهنية الإيجابية في نفوس الناس. وبغض النظر عن هذا الرأي فنحن في جميع الأحوال نفضل تسمية أي عقوبة من هذا القبيل بالجزاءات أو الأحكام الإصلاحية أو التأهيلية طبعاً بالشرط الذي ذكرناه وهو عدم مخالفتها لنص تشريعي أو سابقة قضائية مستقرة. وبالتالي فمصطلح البديل غير وارد كمصطلح قضائي في تقديرنا بعد المراجعة له، وقد قدمنا للسلطة التنظيمية في المملكة العربية السعودية مشروعاً مقترحاً في هذا ارتأينا مؤخراً تسميته بنظام العقوبات الإصلاحية، هذا رأينا كمقترح، ونحن نحترم إرادة المنظم وصلاحياته في جميع الأحوال . وحول عقوبة الإعدام ، قال وزير العدل : إنها عقوبة مقررة في التشريع الإسلامي ، ويجب العمل بنصها الإلهي ، والمملكة دولة إسلامية تعتز بتحكيمها للشريعة الإسلامية ، بل إن أسس كيانها قائم على ذلك ، وهذه العقوبة تعمل بها العديد من الدول ، ومنها دول كبرى، ويَعْتقد بها من حيث المبدأ كتشريع سماوي حوالي مليار ونصف المليار مسلم. وإذا نظرنا إلى المنطق في هذه العقوبة نجد أنها بمعايير العدالة فإنه يتم من خلالها تطبيق قاعدة: الجزاء من جنس العمل، وكون العقوبة من جنس العمل، فهذا منطق لا يقبل التفكير الصحيح سواه، وإلا لتعاطفنا مع القاتل على حساب الضحية، وليس ببعيد أن نقول إن الضحية بحجم مجتمع آمن، ونلاحظ أن بعض الجهات الحقوقية، أو حتى السياسية تصطدم في تحفظاتها أو ملاحظاتها أو حتى إداناتها الخاصة بالمنطق الجنائي، وبدساتير الدول وقوانينها، وتتجاوز الخطوط الحمراء لسيادة الدول، وتتدخل في خيارها التشريعي واستقلالها القضائي، وخاصة إذا كان هذا الخيار يمثل العقيدة الوجدانية لعموم الشعب. ثم تابع الوزير متسائلاً في هذا الصدد بقوله : هناك سؤال آخر أليس المحارب في حال الحرب وإشهار العداوة وعدم الخداع في ذلك يُعدم ؟ إذا كان كذلك فلماذا لا يقتل المحارب في حال السلم وهو المخادع للمجتمع الذي أمنه ووثق به، وكلاهما في جميع الأحوال مقاتل. ثم إن الذي صنع الحضارة المادية الغربية بفكرها الدستوري والقانوني الوضعي بعد العصور الوسطى التي مرت بأوربا هم في الحقيقة صناع الفقه والقضاء الدستوري والجنائي في الغرب، وهم الذين أقروا هذه العقوبة، وهل كانت أيديهم بعد إلغاء هذه العقوبة في عموم أوربا مثلاً متلطخة في السابق بدماء بريئة بفعل نظرية عقابية أخطأوا فيها بحق الإنسانية، ثم أي خطأ ؟، إنه خطأ بحجم قتل أنفسٍ بريئةٍ من القتل في تقدير النظريات الأخيرة ، إنه وفي جميع الأحوال وكما يجب احترام عقول ونظريات أولئك الرواد الأوائل بالنسبة للحضارة المادية الغربية، يجب في المقابل احترام قناعة من يأخذ بهذه العقوبة أياً كانت خلفية قناعته. وقد كانت الأديان السماوية قبل الإسلام في نصوصها الثابتة في زمن أنبيائها تأخذ بهذه العقوبة، بل وإنه في النصوص التي يتلوها من يؤمن بها حالياً ممن بعضهم ضد هذه العقوبة نجد النص على أن سافك دم الإنسان يُسفك دمه، ويقول شراح هذا النص : إنه لا يمكن أن نوجد قِيَمَاً أعلى من قِيَمِ الله ، إن من يناقش في عقوبة الإعدام رافضاً لها ويتجاوز رفضه حدود إبداء الرأي والتعبير بالقناعة والعمل فيما يخصه، إلى إدانة من يطبقها فهو بجملة مختصرة لا يحترم الأديان ولا سيادة دساتير وقوانين الدول، ولا يحترم قناعة من بنى حضارته وأسس لقواعد نظرياته الدستورية والقانونية في شأن من الصعب أن أُبَدِّله من زمن لزمن، فليس هو اجتهاداً يُمكن تحديثه بتغير الزمان أو المكان أو الأشخاص فموضوعه يختلف تماماً عن الاجتهادات الأخرى لاعتبارات عديدة لا أطيل فيها. ومضى الدكتور محمد العيسى قائلاً: وكانت عقوبة الإعدام مطبقة في بعض الدول الغربية الكبرى، وهي التي صدَّرت الدساتير والقوانين للعالم حتى 1982م، بل إن المقصلة أو الجيلوتين اخترعها طبيب في تلك الدولة في بدايات عصر النهضة الأوربية . وحول هذا الموضوع أضاف الوزير: تكاد فطرة البشر تتفق على عدالة ومنطق هذه العقوبة في وقائع الإدانة التي تستوجبها ، وذلك منذ وجد الإنسان على كوكب الأرض. وفي جميع الأحوال، فإننا نتفقُ على أنّ تحقيق عامل الزجر عن ارتكاب الجريمة، يكونُ في تطبيق هذه العقوبة أكثر مما يحققه الرأي الآخر، ووجود جريمة القتل بالرغم من الأخذ بعقوبة الإعدام لا يعني أنها غير مجدية كما يتصور البعض، لأن هذه الجريمة ما دام الإنسان على كوكب الأرض فستكون حتماً موجودة، ومتفاوتة من مكان لمكان ومن وقت لآخر وذلك بحسب كفاءة التحقيق والادعاء والقضاء، وبحسب تفاوت الثقافة والوعي، وفعالية تطبيق القانون وغيرها من العوامل المؤثرة. وهذا المنطق لا يقبل الجدل بديل أن الرأي الآخر بحث عن عقاب بديل ولم يقلل من معدل الجريمة وفق نظرياته، ولا يَشك المنطق كما قلنا قبل قليل أن الأخذ بهذه العقوبة أدعى إلى تراجع معدلات الجريمة وأدعى للاستقرار والأمن المجتمعي وهو ما نص عليه القرآن الكريم حيث وصف الأخذ بها بأنه يحقق الحياة للناس، ثم إن شعور أهل القتيل وكل المتعاطفين مع قضيته بقتل الجاني ليس كشعورهم والجاني حي يرزق، برعاية حكومية، وقد تنتهي محكوميته، ويخرج طليقاً ويده ملوثة بدم برئ بل بدم المجتمع، وذلك أن الحكم بالسجن المؤبد سيكون بحسب العديد من القوانين لسنين محددة وإن طالت، ثم يعود للمجتمع بعدما يُقَرَّر استصلاحه، وقد تلطخت يده بدم المجتمع المحرم وهذا هو الصحيح، فالقتيل جزء من كيان المجتمع فهو أحد أعضائه ولذلك عبر النص الإسلامي بأن من قتل نفساً بغير نفس أي بغير قصاص أو بغير جريمة الفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، وبيَّن هذا النص أن هذا موجود في الشرائع السماوية السابقة ومكتوب عليهم كفريضة تشريعية، وهذا واضح فيما هو بين أيديهم الآن، إن التحفظ على عقوبة الإعدام طرح نظري جديد لا يمكن للمنطق الصحيح أن يقبله تحت أي ذريعة. وحول سؤال عن عقوبة القطع في جريمة السرقة، قال الوزير: هذا كذلك نص إلهي ، بل إن مبدأ قطع يد المعتدي بسوء وُجدت حتى في الكتب الدينية المنتسبة للأديان السماوية فقد جاء فيها نص يقول: اذا تخاصم رجلان وتقدمت امرأة أحدهما لتخلّص رجلها من يد ضاربه ومدّت يدها وأمسكت بعورته فاقطع يدها. وأعتقد أن كل من يؤمن بصحة هذا النص وهم يمثلون عموم الغرب لابد أن يحترموه، وإذا تم انتقاد النص الإسلامي فلينتقد هذا بكل شجاعة وعلناً على حد سواء كما ينتقد النص الإسلامي بغض النظر عن الجانب التطبيقي فمحور الموضوع هو النص، هذه عدالة المساواة في الطرح، وإذا كان الدين ينفصل عن الدولة في الغرب فإن ديننا لا ينفصل لأننا نحترم تشريع الخالق وإلا فإننا عندئذ لم نَصْدُق في اتباع الدين الذي ننتسب إليه، ورداً على مداخلة أحد أتباع تلك الديانة بأن النص الذي أشار إليه الوزير تم تجاوزه بحكم صلاحية علماء الدين الإلهية، قال الوزير: يبقى حسب اعتقادكم أنه وحي الخالق المنزل، وأنه يمثل في نزوله إرادة الخالق وحكمته، ولا يمكن أن يكون نص الخالق صالحاً لوقت وغير صالح لوقت آخر وإلا كان نصه غير قادر على ضبط التشريع بينما يقدر على ذلك علماء الدين، ولماذا لم يكن النص من أصله من صلاحية علماء الدين وهذا أفضل من أن يعدلوا على الخالق فيما بعد، ثم حتى لا يكون هناك فئة من البشر تحظى بنص إلهي وفئة أخرى بنص عُلَمَائِيّ. ثم تابع الوزير قائلاً : إن اليد التي سرقت هي يد معتدية على أمن المجتمع، بل إنها في واقع الحال خائنة له بعد أن ائتمنها ووثق بها، وهي بعد إدانتها التامة تمثل عضواً فاسداً فيه من شأنها أن تسري بطبيعتها الإجرامية كما يسري الفساد في أي شيء، وعندما يتم عزل المادة الفاسدة نحافظ على ما تبقى من صالحها، ولنأخذ مثلاً بالعضو المصاب بداء السرطان فإنه يتم استئصاله ولا يُعطف عليه، ولا على تأثر صاحبه بفقدانه وإلا سرى لبقية جسده ، فهو يُستأصل بالرغم من الألم النفسي المترتب على فقد العضو ، من أجل أن نحافظ على سلامة المتبقي، ونحن نرى سريان ذلك في الجسد كما نراه في المجتمع، أعتقد أن هذا من الناحية المادية منطق عقلي لا بد من تعميمه على كل حالة فساد متى كانت على هذا المستوى في بشاعة تصنيفها وخطورتها. وأضاف الوزير : مع هذا فإن النص الإسلامي في حد السرقة يغلب عليه الجانب التحذيري مع عدم إغفال الجانب الوقائي والعقابي، أقول يغلب عليه الجانب التحذيري لأن الشريعة الإسلامية بحسب النصوص والشروح الفقهية تدعو صراحة إلى عدم تطبيق عقوبة قطع يد السارق للشبهة التي قد تنال من توافر شروط القطع وانتفاء الموانع، وهو القريب فيما يُعرف في القانون الوضعي بالتماس الظرف المخفف والذي يصل في الشريعة الإسلامية بحسب بعض النصوص إلى تلقين المدان أي عذر للنزول بالعقوبة إلى الجزاء الأخف أو حتى البراءة في بعض الوقائع ما يعني أن الشريعة الإسلامية تهدف إلى حفظ المجتمع، لا لمطلق إقامة الحدود بصفة مجردة، كما يظن بعض المسيئين للإسلام من خلال تصوريه له على أنه دين دموي يتشوف للقطع . بل قد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم من أقر أمامه بوقوعه في معصية أخلاقية ذات وصف فوقي في التدرج الجنائي، تُوجب الحُكم عليه بالإعدام، ليس عند المسلمين فقط ، لكن أيضاً في نصوص ديانة سماوية أخرى سابقة للإسلام ينتسب لها اليوم الملايين من البشر، ومع هذا فقد حاول النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة أن يَعرض على من أقر بارتكاب هذه المعصية الفوقية الاحتمالات التي قد تكون حصلت له من أجل تخفيف العقوبة، والتي بمجرد إقراره بها يتم فوراً تخفيف العقوبة، وهكذا في كل ما يتعلق بالعقوبات المنصوص عليها التي تسمى في الإسلام الحدود وهي المحددة بنص تشريعي يستهدف حفظ أعراض الناس ، وعقولهم ، وأموالهم ، وتأمين تنقلاتهم، كل هذا يدل على أن التشريع الجنائي الإسلامي لا يحرص على إقامة هذه العقوبات بوصف مجرد، بل إنه يلتمس قدر الإمكان الأعذار حتى إنه وبحسب ما نص عليه عدد من فقهاء الإسلام يمكن أن يعرض القاضي على المتهم الظروف المخففة التي يمكن أن تكون صاحبت الواقعة استدلالاً بالنص التشريعي السابق، وقد وصف بعض كبار الشُّرَّاح المسلمين هذه العقوبات بأنها أقرب إلى أن تكون نصوصها حاملة في مضمونها أحكاماً تهديدية تصف خطورة الجريمة في التكييف الإسلامي لا أن الإسلام مجرد حريص أو كما يقول بعض من أخطأ مجرد مندفع إلى تطبيقها، فالتطبيق العملي يخالف ذلك تماماً، ومع ذلك فنحن نحترم هذه النصوص ونعمل بها على التفصيل الذي يأخذ به الفقه والقضاء الإسلامي منذ نزل النص الإسلامي إلى يومنا هذا ، طبعاً على ضوء الإيضاح الذي أشرت إليه قبل قليل . وبخصوص عقوبة الجلد، قال الوزير: إن هذه العقوبة (بوصفها المشار إليه في الأسئلة) محددةٌ في الإسلام بنصوص على جرائم كبيرة وهي ذات وقائع مسيئة للمجتمع غاية الإساءة تتعلق بالتعدي على الأعراض والعقول. وعقوبة الجلد تحمل رسالة في التشريع العقابي الإسلامي تتلخص في أنها تشمل ألماً حسياً يهدف لحفظ المجتمع بنص يحقق مصالح استباقية مع تحقيق الجزاء العقابي، والجانب التطبيقي لهذه العقوبة ليس مطلقاً أو يمثل سلطة تقديرية لسلطة التنفيذ، بل يوجد لذلك ضوابط تهدف لحفظ كرامة الإنسان، وعدم المساس بحالته الصحية مطلقاً ، لتكتفي هذه العقوبة بإعطاء الرسالة الاستباقية للمجتمع حيث تتضمن حمايته من أن يقع في مثلها ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى طمأنته بأن واقعة الإدانة تم تطبيق الجزاء عليها، كما أنها أيضاً تحمل كما قلنا رسالة تذكيرية للمدان . وتابع وزير العدل قائلاً: والألم الحسي والمعنوي الذي أدين به المتهم في حق المجتمع وقبل ذلك وبعده مخالفته للنص الإسلامي، هذا مقابَلٌ حسياً ومعنوياً بما حُكم به على المدان من عقوبة الجلد فالإسلام لا يتعاطف مع المجرم على حساب ضحيته، والضحية كما تعلمون كافة المجتمع ، وليس فقط فرداً من أفراده، حتى في القذف الخاص فإن المجتمع يجب أن يأمن في عرضه من خلال أمنه في عرض أفراده . وإذا كان ما صدر من المدان هنا مُؤلماً للمُجتمع فيجب أن يشعر الجاني بالألم نفسه، هذا منطق العدالة ومعادلة الجزاء من جنس العمل، مع أننا في هذا وغيره يجب أن نحترم النص التشريعي كنص مجرد ونعمل به بغض النظر عن كل ما ذكرنا، لكننا بما وضحناه لكم نشرح حكمة النص في تقديرنا . وتابع الشيخ محمد العيسى بقوله: وإذا كنت سأكافئ الجاني بمراعاته عاطفياً من خلال المبالغة غير المقبولة ولا المنطقية ولا الصحيحة للجوانب الإنسانية، كل ذلك على حساب نقمة المجتمع عليه فإني سأتحمل بهذه النظرية غير العادلة نسباً عالية من الجريمة بحق المجتمع. وللعلم فإن العديد من المدانين في تلك القضايا لو خُيِّروا بين الجلد بضوابطه التي تراعي الكرامة الإنسانية والصحة البدنية وبين السجن لاختاروا في جميع الأحوال الجلد بدون أدنى شك وهو ما يطالب به بعضهم في قضايا لا تستحق الجلد وإنما السجن، ولا أعتقد أن الجلد بحقه الجزائي وبضوابطه المحددة يماثل مع الأسف ما يدور في الكثير من السجون والمعتقلات من الإهانة بالتعدي على الأجساد بالضرب المهين للكرامة، وللعلم أيضاً فإن غالب هؤلاء المعتدى عليهم لم يُحاكموا، وحتى لو تمَّت محاكمتهم فلا يجب معاملتهم بهذه المعاملة المهينة، وكذلك لا مقارنة في معايير الإهانة الآدمية بين الجلد وبين تكبيل المتهم وتصفيده بالحديد بصور بشعة لو فُعلت مع الحيوان لتقزز منها الإنسان، وهي مع الأسف تمارس مع المتهمين ، نعم تمارس معهم بدون قيم أخلاقية تراعي الكرامة الآدمية مهما صدر من الإنسان . هذا إذا كان مداناً فكيف وهو لا يزال متهماً. وأقول لكم إن حجة من تحاورنا معهم في وقت سابق حول هذا (وهم مع المفاجأة الغريبة من الفعاليات الحقوقية في دول متقدمة) حجتهم هي أن من أوقع نفسه في دائرة الشبهة بمجرد أدنى قرينة جنائية يستحق الإجراءات المشار إليها ، ولو كان في مرحلة جمع الأدلة والتحقيق والحبس الاحتياطي، وأنه هو الذي جر لنفسه ألمها الجسدي والنفسي حتى لو كان في اعتقاده واعتقاد غيره مُهِيناً. وسؤالي هل يقارن هذا الإجراء المهين للمتهم، بجلد المدان بقيودٍ تحفظ كرامته الآدمية وتجازيه على تجاوزه على مجتمعه الآمن. بالتصور الموضوعي لا يمكن أن نقارن عقوبة الجلد المشار إلى ضوابطها بسحب المتهم بسلاسل مهينة يمكن التحفظ عليه دونها بكثير، وإذا كان يَمْثل أمام القضاء في عموم القوانين غير مقيد فلماذا هذه الإهانات وهو في سجنه أو تَنَقّله. أعود وأقول بشأن الجلد: إنه بالمنطق ليس هناك أي مبرر للشفقة على المدان جنائياً في محاسبته التشريعية جسدياً بضوابط لا تُسيء للكرامة الآدمية، ثم إن المجتمع المسلم يحترم هذا النص ويتقبله تماماً وهذا يكفي، وغير المسلم لم يدخل منطقة التطبيق الشرعي لهذا النص إلا وهو على دراية بدستور ونظام الدولة، فهو قابل به ضمناً عند حدوث واقعة جزائية منه تستوجب تطبيقه عليه. أما الألم الحسي والمعنوي للجَلْد فإننا نقول إن الجاني هو من اعتدى على المجتمع وأخاف أمنه، بل ونجد في الكثير من الوقائع أن جريمته تُحدث ألماً حسياً ومعنوياً مكدراً ومثيراً للرأي العام، ولا بد أن يطمئن تشريعياً وقضائياً لحجم المحاسبة . نكرر القول في هذا بأن الرؤية الموضوعية تجزم يقيناً بأن التعاطف مع الجاني على حساب الضحية والدعوة للشفقة عليه والتخفيف عنه، وهو بلا شك لا يستحق ذلك لربما اعتُبر بتحليل آخر أنه يدعم جانب المشاركة الوجدانية مع الجاني، والسؤال هل هذا يمكن قبوله تحت أي مبرر؟ الجاني يستحق العقوبة التشريعية دون إهانة لكرامته الآدمية ودون تجاوز للنص أو السابقة القضائية بحسب الأحوال. ونعود وكما ذكرنا في عقوبة القطع لنقول بأن تشريع الجَلد في حالات معينة وبضوابط دقيقة أشرنا إليها، هذا التشريع من حيث الأصل وبإطلاق ليس له قيود يعرفه من ينسب نفسه لديانات سماوية يحترمها المعترض، ويحترم نصوصها، ومن ذلك عدم وصفه لها بأي وصفٍ قد وصف به عقوبة الجلد في الإسلام ، وقد جاء في تلك النصوص لتلك الديانات أن الجلد علنا كان وسيلة عقاب الرجل الذي يتهم زوجته باطلاً بأنها لم تكن عذراء عندما تزوجها، وهو نص مقدس في ديانة يؤمن بها أكثر سكان كوكبنا، ومن منطق عدالة المساواة في النقد لا بد من شمول هذا النص بالنقد واعتباره غير أخلاقي ولا إنساني بوصفه نصاً مجرداً سواء تم تطبيقه أو لم يتم نقول هذا لأن التنظير لا ينفك في التحليل الحقوقي عن التطبيق مطلقاً . وفي نقاش حول ما يسمى ب: "المثلية" أجاب الوزير قائلاً: إلى السبعينات كانت مصنفة باتفاق كاضطراب نفسي يُعالج، فأقرتها الحريات بدون سقف على حساب الفطرة الإنسانية والنمو البشري لحسابات حزبية وسياسية بعد التفاعل المرتد لبعض النظريات العلاجية الحديثة، وأنه في عام 1972 تم إلغاء مصطلح الجنسية المثلية كإضطراب وانحراف نفسي، وهذا يدل على أنها كانت مصنفة كاضطراب نفسي بإقرار من أسس للطب النفسي وعلم النفس، وكان المثليون قبل الستينات يعزلون في مصحات لعلاج اضراباتهم . وحول الإصلاحات المهنية أشار الوزير إلى أنه لا يستحق المسؤولية من يخشى ضريبة الإصلاح، ولا من يبحث عن الأصوات أو يتحاشاها على حساب القيم الأخلاقية والإنسانية. وعن انتقاد الأحكام القضائية، قال الوزير حول بعض الموضوعات التي سئل عنها وتختص بانتقادات معينة لقضايا أحوال شخصية وجنائية ، قال: كثيراً ما أسمع في هذا العديد من النقاشات ولا أجيب عنها إلا بالقاعدة العامة التي تقول : لا جدوى ولا قيمةَ للحديث عن الأحكام قبل نفاذها سوى محاولة التأثير على حسن سير العدالة فيها ، ولذلك منعته القواعد النظامية كما منعته عندنا نصاً أثناء النظر القضائي في مرحلته الابتدائية، أما انتقادها في السياق الحاد الذي نسمعه (ليس على أحكامنا فقط بل نجده على أحكام غيرنا أيضاً)، فهو بعد أن تكتسب النفاذ بالقطعية يعتبر في العرف القانوني المستقر ازدراء لقضائها ، وهو في توصيفه الجزائي قد يصل إلى رتبة الجناية بحسب درجة التجني والحدة في الاتهام والتأثير على الرأي العام بالقول المفضي للفعل الضار، لأن كل اعتراض عليها من المفترض أن يكون تم تقديمه لدرجة التقاضي الأعلى درجة في سياق ضمانات التقاضي، فلا وجه مطلقاً لطرحه بالنقد أمام الرأي العام غير المختص ولا المؤهل لمناقشتها علاوة على أنه مُغَيَّب عن تفاصيل وقائعها والتي من المستبعد أن يستعرضها المنتقد بكل دقة وحياد ، لكن في مثل حواراتنا العلمية هذه نستعرض الأسس التي بنيت عليها ونتحاور فيها لا على أساس النقاش على الحكم ، لكن على الأسس التشريعية لها والنظريات العلمية المتعلقة بها ، وهي التي استعرضنا بعضاً منها في هذا الاجتماع الذي أعتقد أنه شفاف من جميع الأطراف بكل المقاييس، وديننا يرشدنا للحوار وبيان حكمته التشريعية والدعوة إلى قبولها والأخذ بهدايتها دون إكراه بالإلزام بها لغير المسلمين. والإسلام دين حكمة ودعوة للحوار ودين سلم وتعايش، ولولا ذلك لما بقي برقمه القوي (والمطرد باستمرار) أكثر من ألف وأربعمائة عام، وأيضاً لما خرج من مهد الرسالة الإسلامية وهي مكةالمكرمة، لكن التشريعي الإسلامي للدولة التي تطبقه وهي المملكة العربية السعودية يمثل في التوصيف الدستوري والقانوني الدولي، دستور وقانون دولة ويجب تعامل الغير معه على هذا الأساس ، وليس على رؤيته الداخلية على أنه تم إلزامه بتعاليم الإسلام بينما هو غير مسلم، فمثلاً منطق ديانة الإغريق واليونان المأخوذ ببعض أسسها في بعض التشريعات الأخرى عندما يطبق على المسلم المقيم في تلك البلدان يتعامل المسلم معها ليس على أنها تشريعات ديانات أخرى طبقت عليه بل على أنها دساتير وقوانين دول لم يدخل إليها بتأشيرة الدخول أو يرضى بجنسيتها تحت أي ظرف كان إلا وهو راض بما يطبق عليه منها من واقع دستور وقوانين دولتها لا على أساس قناعته أو رضاه بأيدولوجيتها . وأكد الوزير على أن انتقاد بعض الهيئات والمنظمات الحقوقية للتشريع الجنائي الإسلامي أصبح لزمة متكررة في تقاريرها، وقد أعجبتني نظرية أحد الفلاسفة التي تقول إن أخلاقيات النقد ربما سقطت عند توصيفه ك: " لَزْمَة " تستولي على مجمل سياقات طرح صاحبه، مع أننا في هذه الموضوعات محل تلك التقارير، قد أجبنا إجابة تفهمها الكثير وإن لم يقتنع البعض بها لكن يكفي التفهم غير أن آخرين لا يزالون يصرون على ضد ذلك وهم في تقديرنا قلة . من جانب آخر التقى وزير العدل الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى وزير العدل المدعي العام بالولاياتالمتحدةالأمريكية إيرك هولدر، ودار خلال الحديث استعراض الموضوعات ذات الاهتمام المشترك. كما التقى رئيس وعدداً من قيادات نقابة المحامين الأمريكيين والتي يتبعها حوالي 400.000 عضو داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، ودار خلال اللقاء استعراض العديد من الموضوعات المتعلقة بمهنة المحاماة وسبل تعزيزها، وقال الوزير خلال اللقاء: محامو المملكة على قدر عال من الكفاءة والمهنية أما التجاوزات اللاحقة فهي نادرة واستثنائية، وبين أن دور المحامي ينحصر مهنياً في الدفاع عن الحق الذي يعتقده أمام منصة القضاء. من جانب آخر التقى وفد الحريات الدينية الأمريكية وهي هيئة حكومية ودار خلال اللقاء استعراض بعض الموضوعات التي طرحها الوفد على معاليه. كما قام وزير العدل بزيارة بعض المحاكم الأمريكية واطلع على الجوانب الإجرائية والتقنية، وأحاط الجانب الأمريكي بالنقلة التنظيمية والإجرائية والتقنية التي وصل إليها مرفق العدالة بالمملكة.