(صوب بلاد الماء) عنوان لنص مسرحي حمل في الصفحة الثانية عنوانا آخر هو: (الطريق الى الجحيم).. وكتب على غلاف النص ثلاثة اسماء قاموا بالاعداد. وجهد رابع قام بفعل الصياغة العامة للنص. وأحيل الى مصدرين استقى منهما المؤلفون فكرة النص: الاول كتاب خطة الهجوم لكاتب امريكي. الثاني مسرحية أو قاذفة القنابل لكاتب امريكي حذق المسرح وتعاطاه. النتيجة هي: نص مسرحي له مرجعيته الفكرية الغربية المنشأ الامريكية الصنع وجهد ثلاثي شكل فريق عمل لاخراج نص مسرحي بما يتواءم ومناخاتنا.. وهنا يأتي سؤالي المستفز: هل كان النص المكتوب على الورق يحتمل كل ذلك الازدحام؟ هذا ما شاغل فكري, بعد ان توقفت عند نقطة السطر الاخير في نص (صوب بلاد الماء) او (الطريق الى الجحيم) كما ظهر في الصفحة الثانية من النص؟ سؤال تجاهلت الاجابة عنه, لا لشيء, انما لندخل معا في الحالة التي انتابتني ولننشغل به جميعها، عنوانان مصدران منحدران من الثقافة الامريكية ثلاثة معدين حملوا فكرهم (صوب بلاد الماء), فبأي ماء عادوا وهل أروى ماؤهم عطشنا المسرحي؟ هذا اذا كنا سائرين (صوب بلاد الماء), اما اذا كنا سائرين الى عنوان النص الثاني, ولا طريق سوى الطريق الى الجحيم, فاقترح ان نكون اكثر صدقا مع ذواتنا, وان نتقبل طرح التساؤلات السابقة بصيغ أخرى, لعلنا نجد طريقا غير طريق الجحيم: المواجهة الاولى: هل كان الفكر المطروح في نص (صوب بلاد الماء) يتطلب الغوص في كتاب (خطة الهجوم) للكاتب والصحفي الامريكي الشهير (بوب وودوارد) الذي الف كتبا هامة مثل: كل رجال الرئيس والايام الاخيرة والستار والقادة او الكتاب الداهية الذي فجر فضيحة (ووترجيت) وكان بعنوان (الظل), واخيرا كتابه الذي يعنينا امره في نصنا هذا وهو خطة الهجوم؟ المواجهة الثانية: هل كان نص (صوب بلاد الماء) مضطرا لاستثمار الفكر الذي قدمته مسرحية الكاتب الامريكي (ايريك برغستون) المعنونة بقاذفة القنابل؟ المواجهة الثالثة: هل كان النص قادرا على نقل الامانة الادبية, ومستوعبا البعد الموضوعي لهذرين المصدرين؟ ام هل هو ترف وترهل وتقليد لبدعة تتكرر كثيرا في النصوص العربية مؤخرا؟ أرى ان الطموح المتفجر في ذواتنا - وهذا من وجهة نظري امر ايجابي - ارى انه يدفعنا احيانا لتضخيم ما هو بسيط, وتعظيم ما هو ذري الحجم, مما يدفع بقلم مسرحي محلي الى استثمار كتاب امريكي ومسرحية امريكية. واقصد هن اننا نهرع راكضين لنتمثل مقولة الفكر الآخر لمجرد طموحنا في محاكاته او السير على نهجه والطموح مشروع بجميع صوره ولكن. الآن ما رأيكم ان نقلب الامر في صالح الكاتب ولنفسر اتكاءته على تلك المصادر بانها ذكاء منه، وحق مشروع له واظن ان مراده قد تحقق، فقد قذف بي بسرعة البرق في دوامة نصه، حين صعقني في صفحته الاولى بل في افتتاحيته بانه استوحى الفكرة من كتاب أقام الدنيا ولم يقعدها ومسرحية تحمل نفس القوة في الحضور، ولا أخفيكم سرا كم لهثت عيناي في قطع المسافة بين الكلمة والاخرى رغبة في التعرف على مقدرة كاتبنا في استدعائه الفكر الغربي في ثنايا النص المسرحي المحلي. وكم اتمنى ان تكونوا قد وقعتم مثلي في هذه اللعبة الذكية التي سار عليها فريق عمل الاعداد، فجذبوكم حين اعلنوا ان النص له أصول أمريكية مع تقديمي للنوايا الحسنة في فعلهم هذا. بعد زوبعة الاستهلال اشعر الآن بانني بدأت التقط انفاسي واسترد هدوئي لادخل الى اجواء المشهد البصري الاول كما عنون في النص: في هذا المشهد يخترق الجموع شخص بملابس فلكلورية صرح بهويته حين ارتدى الزي العراقي وتغنى باللكنة العراقية فيأتي مشهد كهذا ليلفت انظارنا على الهوية التي نبحث في امرها فنحن في فضاء اسمه العراق وفي ازمة انسان هو العراقي وفي عبق حضارة قائمة هي حضارة العراقيين بما انتجت وأبدعت وأبهرت. وهنا يقع المؤلفون في اشكالية من اشكاليات التأليف المسرحي وهي مفهوم المؤلف لمضمونه او منظوره لقضيته المطروحة فهناك كاتب يخضع مضمونة الفكري لحتميات الاتساق الدرامي والشكل الفني وهناك الكاتب الذي يلح عليه المضمون إلحاحا، قد يجعل من المسرحية مجرد اداة عابرة لتوصيله والتأليف هنا ينتمي الى الفئة الثانية حيث يلح الكاتب على الايصال السريع والواضح لمضمونه فقال لنا بداية (انا العراق) و(هذه حكايتي). وبرغم تقليدية البداية فانها قادرة على الاستحواذ على عاطفتنا وهنا يأتي ذكاء التوظيف من قبل المؤلف فهو يستفز فينا حبنا للعراق وتعاطفنا مع اهله وحبنا الجنوني لحضارته. وقد اكد ذلك المعنى الاصوات الغريبة (النشاز في مقولة المؤلف) والتي قطعت صوت الطرب العراقي الاصيل بكل دلالاته لتقمع الاصالة وتلغي الهوية وتفتت الكيان بل وتلون ذاتها بألوان لحضارات آخرى او لنقل بلون القوة العظيمة القادمة من الضفة الاخرى وتحديدا حين بدأ الايقاع الموسيقي الغربي فاغتال العراق كل العراق. وقد لفت نظري في هذين المشهدين اتجاه الكاتب الى تقنية اختزال الزمن فنقلنا بسرعة شديدة مؤكدا ان القوة تحيل الاشياء الى عدم، مما طار بي مباشرة الى العراق، وقت دخول القوات الامريكية الى ميدان الفردوس ببغداد حيث انتهى هناك كل شيء بين غمضة عين وانتباهتها. اما في المشهد البصري الثالث فهناك اختزال زمني جيد - من وجهة نظري - حيث السيطرة الكاملة لقوات غير قوات البلاد فبات الواقع الجديد حقيقة واقعة, فالبلاد هي ذات البلاد التي صدح فيها ذلك الشجن العراقي الاصيل فقط قبل ايام معدودات ولكن اليوم تبدل امرها واصبح القادم من هناك مشرعا وقاضيا وجلادا في آن واحد. بعد تلك الاطلالة السريعة يبدأ النص في طرح فكرته الرئيسة او العميقة ان صح التعبير, وتحديدا في مشهده البصري الرابع حيث فضاء مركز الشرطة بسحنه وسجانه وشرطيه وضباطه وملفاته المليئة بالبراءة هذا من جهة، ومن جهة اخرى تقف في الطرف الآخر مجموعتان من المقموعين اوالمهتمين في ارضهم مما يفسر دخول النص في أزمته او ذروته وهذا ما اضطر الكاتب الى العودة الى تقنية الحوار بعد مشاهد لا حوار فيها، وهذا انتقال محسوب للمؤلف لان اللجوء الى الحوار بعد هذه المشهدية فيه تجديد لروح العرض, وقد دار الحوار هنا حول مصير الموقوفين، والحكم الذي تستحقه كل مجموعة من المجموعتين. وعلى الرغم من خفة الحوار ورشاقته وبالرغم من اتسامه بطاقات تعبيرية عالية، عيب عليه مباشرته في كشف الاهداف المراد الوصول اليها. على سبيل المثال يقول الضابط حين تلا على الموقوفين حكمه العسكري: نعم سنطلق سراحكم الى الشارع.. كي تأخذوا منه كفايتكم لم يكن تفسير الضابط لحكمه الا وأدا لدهشتنا بغرابة الحكم بمعنى ان اطلاقهم الى الشارع بكل تلك البساطة كان ادهاشا لنا, وتأليبا لفكرنا, وبهذا يكون التفسير زيادة وإطالة فلماذا جاءت عبارة تفسيرية كتلك: كي تأخذوا كفايتكم منه. وللتمثيل ايضا على المباشرة في الحوارية يقول الضابط: نعم انا مثلكم تماما أحب ان أهشم الجماجم, ولكن بعيدا عن اجواء الوطن, فأمننا القومي يتطلب ذلك. في رأيي: ان تفسير المؤلف لمقولات شخوصه فيه تقويض لفاعلية المشاركة من قبل القارئ كما يكشف عن سلطوية التأليف حين ينصب نفسه وصيا على افكارنا ورؤانا واستيعابنا لما يدور من حولنا. من مجمل هذا المشهد (الماستر) في نص (صوب بلاد الماء) تتضح لنا الرؤية الفكرية المطروحة وتتكشف البنى العميقة التي يبحث النص فيها وهي اننا امام جيش محتل التقط افراده من الشارع بمفرداته المعروفة: التشرد, العنف, والتيه, واللاهوية, بل اكثر من ذلك: اننا حيال حرب لم تأت لتبني بل لمآرب اخرى. لهذا كنت اقول في بداية حديثي ان الفكرة بسيطة وشائعة ومتداولة وفي ظني لو تجاوز المؤلف تلك التيمة المسلم بها وقدم لنا تفسيرات أعمق لكان أجدى وأوقع. يجدر بالفكر المسرحي - كما أعلم وتعلمون - ان لا يجنح نحو التقاط صورة فوتغرافية تطابق الواقع، فالفن فتح جديد وابتكار غير مسبوق وعزف على غير المألوف وهذا نص قادر على خلق تلك الرؤية الجديدة والتفسير المختلف اذا ما توافرت لمنتجيه شجاعة في طرح رؤاهم الخاصة حول تلك القضايا وتداعياتها. بقي أن أسجل ملاحظتي الاخيرة وهي مهمة من وجهة نظري وقد بدت جلية لي بعد قراءتي تلك التجربة وتتلخص في ان الإعداد واكبه رغبة جامحة لترك بعض التفاصيل المهمة للعرض او لقراءة اخرى ستكون على المنصة مما ترك فراغا في النص سده العرض بكل ما يحمله من تقنيات ضوئية وصوتية وما شابه وهذا لا يعني ان النص في حد ذاته لا يشكل حالة ابداعية جيدة تستحق القراءة والنقاش والجدل. هذا جهد إبداعي تواصلت معه وحرك في داخلي رغبة التحاور معه بل والصراع مع مشاهده وشخوصه، وتلك هي سمة الابداع الحي النابض بالوعي، أن يجعلك مستفزا باحثا عن ذاتك فيه، عن حضورك في ثناياه، وهنا وجب علي التأكيد ان اختلافي مع النص اثرى بكثير من اتفاقي معه، فأشكر كل القائمين على هذا النص لكونهم تركوا للرأي الآخر مساحة نصل من خلالها اليهم، وذلك هو الابداع وهذا هو الرحيق الذي نجنيه من بستان المسرح وان وخزنا الشوك وآلمتنا اللسعات.