ما بالنا قد استبشعنا قتل العراقيين اثني عشر نيبالياً، في حين انهم في بغداد يتلقون من الامريكيين دروساً يومية في القتل؟ - وما بال الاعلام قد سلط الضوء على قتل النيباليين ومر مروراً سريعاً على قتل 34 عراقياً في اليوم نفسه، وكأن الجريمة الاولى هي "الخبر" بينما الثانية صارت من مشاهد الحياة العادية في "العراق الجديد"!. (1) اخشى ما اخشاه ان يسهم ايقاع الاخبار في تضليلنا، عن طريق تكثيف التركيز على الحوادث اليومية، بما يصرف الانتباه عن منابع الشر وجذوره. ذلك ان الاخبار التي يبثها التليفزيون بوجه اخص تجعلنا نستغرق في الحدث عبر العيش في تفاصيله الآنية المثيرة، خصوصاً اذا اقترنت بالصور وشهادات الشهود. وعادة ما يقدم البث اجابات عن بعض اسئلة اللحظة: من ومتى وكيف وأين وغير ذلك. ولان عرض الخبر لا يستغرق سوى ثوان معدودة، فانه في الاغلب لا يتطرق الى اجابة السؤال الأهم: "لماذا؟". بسبب من ذلك فان المشاهد يظل اسير انطباعات اللحظة، فينقم مثلاً على العراقيين لانهم قتلوا النيباليين او غيرهم من الرهائن الذين يقعون بين ايديهم. وبسبب بشاعة الحدث فانه لا يتاح له ان يفكر في غير ذلك. فلا يخطر على باله مثلاً ان يتساءل: لماذا يتصرف العراقيون على ذلك النحو؟ ولماذا عمت الفوضى البلاد وانفلت فيها عيار الامن؟ ولماذا جاء النيباليون الى العراق؟ - وينتهي الامر بالمشاهد وقد احاط بالخبر دون خلفياته، الامر الذي ينقل اليه الصورة مبتسرة ومنقوصة، ومن ثم يراكم لديه مشاعر مبنية على تلك الصورة المنقوصة، فتبقى انطباعاته غير دقيقة ومشوهة. لست في مقام نقد الاداء التليفزيوني، لان ما نسجله عليه هو من طبيعة البث الاخباري فيه، حيث يقدم الخبر مكثفاً ومختزلاً عند آخر نقطة في الحدث، في حين ان عرض الخلفيات والجذور يفترض ان مكانه ومجاله في برامج اخرى. لكنني فقط اردت ان انبه الى المزالق التي نستدرج اليها حين نعكف في قراءة الاحداث والاخبار من خلال الالمام بوقائعها المستجدة دون خلفياتها. في الوقت نفسه لا تنس ان الامر لا يخلو في بعض الاحيان من تلاعب بالوقائع عن طريق اظهار جانب دون آخر، لتحقيق مآرب معينة، ليس بينها بسط الحقيقة امام الناس. ولعلك تذكر ما قيل عن مقارنة آراء بعض التليفزيونات العربية بنظيراتها الامريكية في تغطية غزو العراق، وكيف ان تلك التغطية على الجانبين بدت وكأنها تتحدث عن حربين مختلفتين. كذلك فان المتابع العربي لبعض محطات البث الامريكية - فوكس نيوز مثلاً - يلاحظ ان اللعب في متابعة احداث الاراضي المحتلة يتم بطريقة فجة للغاية. فكل التدمير والتخريب والقتل الوحشي الذي يستهدف الفلسطينيين لا يرى منه شيء يذكر على الشاشة. في حين انه اذا ما وقعت عملية استشهادية في داخل اسرائيل، فالتغطية لا تترك بقعة دم دون ان تصورها، ولا طفلاً مات دون ان تسلط الضوء على اهله ومدرسته ورفاقه وغير ذلك. وهذه الاضواء تسلط على اي انسان آخر من الفئات الضعيفة في المجتمع الاسرائيلي، لدغدغة مشاعر المشاهد وشحنه بمشاعر الكراهية والنقمة على الفلسطينيين، والعرب والمسلمين اجمعين ان امكن. لا لوم على البث الاخباري اذن ان كان محايداً بطبيعة الحال. ولكن الامر لا بد ان يختلف حين نكون بصدد التحليل والتعليق، الذي يقع في المحظور ان هو انطلق من قراءة الاخبار معتمداً نفس النهج. وهو ما ينم عن حالة من الكسل العقلي الخطر، اذا احسنا به الظن، ومن اسف ان هذه الحالة منتشرة في كتابات بعض الزملاء. اذ الملاحظ انه ما ان يقع حادث من ذلك القبيل الذي نحن بصدده، حتى تنطلق في اعمدتهم وزواياهم اصوات الصراخ والعويل والتنديد التي تنم عن تسرع وخفة. واذ يكتفون بذلك. فان أحداً من اصحاب تلك الاصوات لا يحاول ان "ينورنا" بالاجابة عن السؤال: لماذا وقع الحادث، وما الذي اوصل الامور الى ما وصلت اليه؟ (2) الاسبوع الماضي كان دموياً بامتياز. في داخل اسرائيل تمت عمليتان استشهاديتان أدتا الى مقتل 16 اسرائيلياً وجرح اكثر من سبعين آخرين. وفي العراق تم قتل 12 نيبالياً وثلاثة اتراك. وفي اوسيتيا الشمالية تم قتل 230 شخصاً بينهم عدد كبير من الاطفال، في عملية اقتحام مدرسة روسية استولى عليها متمردون شيشانيون. في خلفية كل واحد من تلك الحوادث يقبع مشهد دموي اخر. فقتل الاسرائيليين ليس منفصلاً عن واقع الاحتلال الوحشي وممارساته اليومية التي تستهدف تدمير حياة الفلسطينيين باذلالهم واقتلاعهم من ارضهم. وفي العراق هناك واقع الاحتلال الذي اهان الشعب العراقي واذله، ففجر في اعماقه غضباً يزداد يوماً بعد يوم، خصوصاً في ظل القصف الصاروخي اليومي لبعض المدن، ومع استمرار اعتقال الالاف وتعريضهم لصور مروعة وفاحشة من التعذيب الذي تكشفت بعض ممارساته في سجن (ابو غريب). وفي الشيشان قهر روسي اقترن بقسوة بالغة، اذلت بدورها كبرياء ذلك الشعب المسلم الأبي، الذي يرفض الخضوع للهيمنة الروسية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ولم يترك فرصة الا وانتفض ضد الروس وقاتلهم. وقد استجاب الرئيس يلتسين لرغبتهم في الاستقلال بصورة نسبية، الا ان الرئيس الحالي بوتين سحب كل ما اعطاه يلتسين، وقرر مواصلة اخضاعهم لسلطة موسكو بالقوة العسكرية. والامر كذلك، فلسنا نبالغ اذا قلنا ان الدم الذي اريق طيلة الاسبوع الماضي في البقاع الثلاث هو نتاج مشاهد من العنف والقهر واهدار الكرامة الانسانية، التي هي في حقيقة الامر بمثابة "ارهاب" اخضعت له الشعوب في العراق وشيشينيا وفلسطين. استنبت عنفاً مضاداً وصل الى مرحلة العبث والجنون في العراق وروسيا. وهو ما تجلى في قتل الرهائن او ذبحهم في العراق، وترويع الابرياء واستسهال التضحية بحياة المدنيين الروس، الذين لا علاقة لهم بالاحتلال من قريب او بعيد. صحيح ان الوضع في فلسطين مختلف، من حيث الخصوصية التي يتسم بها الوضع في اسرائيل. اذ نحن بصدد شعب مسلح اقتلع بالقوة شعباً آخر من ارضه، واصر على تأييد تشريده واذلاله واغتيال كل احلامه. وهذا الشعب اقام في فلسطين دولة اشبه بالمعسكر، يتوزع القادرون فيها من الرجال والنساء بين مقاتل على الجبهة يحمل السلاح، ومقاتل في الاحتياط ينتظر النداء. الامر الذي ازال الفواصل بين العسكري والمدني، وشكل حالة فريدة لا مثيل لها في التاريخ الحديث. هي اسوأ بكثير من النظام العنصري الذي قام في جنوب افريقيا، من حيث ان المستوطنين البيض هناك اقتسموا الارض مع ابناء البلد السود واذلوهم حقاً، ولكنهم على الاقل لم يقتلعوهم من ارضهم كما هو الحاصل في فلسطين. ورغم الاختلاف القائم مثلاً بين طبيعة المجموعات الاستشهادية في فلسطين، وبين الارامل المتشحات بالسواد في شيشينيا (اللاتي قام الروس بقتل ازواجهن)، وبين الاثنين وبين المنظمات التي تنسب الى المقاومة في العراق، الا ان القاسم المشترك بينهم - اكرر - يتمثل في ان الجميع خرجوا من رحم ارهاب تعرضت له شعوبهم من جانب قوى مستكبرة وقاهرة. (3) هذه الخلفية لا تبرر اية تصرفات حمقاء او ممارسات بشعة تمت باسم المقاومة، وانما تسهم في تفسيرها على الاقل. من ثم فادانة الحماقات والبشاعات مقطوع بها ومفروغ منها. لكن فهم خلفياتها ضروري أيضاً. لا مفر من الاعتراف في هذا الصدد بأن تلك الممارسات العبثية والبشعة اساءت كثيراً الى مفهوم المقاومة، بقدر ما انها شوهت صورة الاسلام والمسلمين. ذلك اننا نفهم المقاومة الوطنية باعتبارها كل تحد او مقاتلة للاحتلال بمختلف عناصره وأدواته وأعوانه. وفي هذا الاطار استقبلت الكلام الذي صدر مؤخراً عن الشيخ يوسف القرضاوي، ذلك انه حين تحدث عن مقاتلة الامريكيين رداً على سؤال في نقابة الصحفيين المصريين، فانه لم يعمم هذا الحكم ولم يطلقه بغير قيد ولا شرط. فلم يكن يعني الامريكيين بعامة، وهو من ادان واستهجن احداث سبتمبر وقتل الابرياء في نيويورك. وانما كان يقصد اولئك النفر من الامريكيين الذين جاءوا غزاة ومحتلين للعراق، من ثم فكلامه منصب على دائرة الاحتلال ومحيطه، بصرف النظر عما اذا كان الذين يتحركون في تلك الدائرة من العسكريين المحتلين او المدنيين الذين يعاونون في التمكين لهم، من رجال الاستخبارات او الادارة مثلاً. اما كل من خرج عن تلك الدائرة حتى وان كان امريكياً فلا يدخل ضمن المحاربين، وبالتالي فلا ينبغي ان يمس بسوء، وانما تحفظ له كرامته، فضلاً عن حياته بطبيعة الحال. واذكر هنا بأننا ابناء ثقافة علمت المسلمين ان كل مخلوق له كرامة، بصرف النظر عن دينه او عرقه، وان العداء لا يبرر الظلم، وان قتل الانسان بغير حق بمثابة عدوان على البشرية كلها، بل وكأنه قتل للناس جميعاً. وهذه ليست استنتاجات او اجتهادات من عندي، ولكنها تعاليم وتوجيهات منصوص عليها صراحة في القرآن الكريم. انطلاقاً من هذه المرجعية، فاحسب انه غني عن البيان ان قتل الرهائن او التمثيل بجثثهم يعد عملاً وحشياً لا يقره ضمير او عرف وقبلهما الدين. وهو عدوان على حق الحياة فضلاً عن اهداره لحق الكرامة المكفول شرعاً بل هو عدوان على حق الله، باعتبار ان الحفاظ على النفس من المقاصد الضرورية للشريعة، باتفاق فقهاء الاصول. (4) حين انفضح امر تعذيب العراقيين في السجون بواسطة الضباط والجنود الامريكيين، كتب المحلل السياسي الامريكي القدير وليام فاف مقالاً تحت عنوان: السبب الحقيقي وراء تلك الانتهاكات، استهله بطرح السؤال التالي، الذي وصفه بأنه "حرج": الى اي مدى كان لسياسات ادارة (الرئيس) بوش دور في تشكيل ذهنية الجنود الامريكيين وأرواحهم المعنوية على نحو جعل الطريق امامهم مفتوحاً على تعذيب الاسرى العراقيين وانتهاك ادميتهم، بل وقتل بعضهم دون وجه حق في بعض الحالات؟ في الاجابة عن السؤال اجاب (في النص الذي نشرته مجلة "المجلة" اللندنية في 22/5) بما يلي: لقد اظهرت ادارة بوش منذ بداية مجيئها، حتى قبل احداث سبتمبر عداء واضحاً صريحاً للقانون الدولي والمعاهدات الدولية التي ترى فيها من وجهة نظرها قيوداً على سيادتها او عوائق امام مصالحها. في حربها ضد افغانستان، اكتفت الادارة الامريكية بشحن الاسرى الى خارج البلاد، وزجت بهم في معتقل جوانتانامو، دون ان تمعن النظر والتحقيق في ملفاتهم، دون الالتفات، ولو بحجم بعوضة، الى الاعراف والمعاهدات الدولية المتفق عليها في جنيف حول اسرى الحرب. واللوائح التي وضعتها القوات الامريكية بشأن تعاملها مع هؤلاء الأشخاص لم تنظر اليهم على انهم اسرى حرب، بل اعتبرتهم، وفق التوصيف الرئاسي: "مقاتلين أعداء". ونقلت الادارة الامريكية بعض الاسرى الافغان، وآخرين وقعوا اسرى حروب قالوا عنها انها "ضد الارهاب"، الى بلدان مختلفة.. وقال المسئولون حينها للصحافة، بعين تضحك واخرى تغمز، ان سبب نقل الاسرى خارج الولاياتالمتحدة يعزى الى امكانية وضعهم تحت آلة التعذيب. ومرة اخرى، جاء رد فعل الرأي العام الامريكي، صحافة كان او دوائر سياسية، باهتاً غير فاعل. وفي افغانستان، ومن بعده العراق، كان السبب الذي اذاعوه حول مساهمة مدنيين، بعقود، في اعمال الاستخبارات والتحقيقات مع الاسرى، هو ان هؤلاء المدنيين لا يخضعون للنظم العسكرية، ومن ثم يكون سهلاً على المسئولين الامريكيين "انكار" مسئولية الاخطاء التي ستقع حتماً من جانب المحققين في حق المتهمين. كل هذه السياسات كانت متسقة مع الخط العام الذي اعتمد العنف سمة اساسية له في توجهات المحافظين الجدد داخل ادارة بوش، هؤلاء المحافظون الذين طالما اصروا منذ سنوات عديدة على ان التاريخ ما هو الا صنيعة العنف، وان النخبة الحاكمة، على المستوى القومي الامريكي، لها الحق كل الحق في تضليل الجمهور بغرض تحقيق تلك الاهداف لا يدركها الا من يشغل مناصبهم ومواقعهم السيادية. كانت كل هذه الاتجاهات بمنزلة الدعامة التي ارتكزت عليها ضغوط الادارة الامريكية في التعامل بعنف مع حركة "تغيير الحكومات"، والتصدي لما سمته بالدول المارقة، على حد وصف الرئيس الامريكي ونائبه، التي تهدد الولاياتالمتحدة بأسلحة الدمار الشامل. وعليه، ظهرت المناداة بالهجوم على العراق قبل "فوات الاوان". اما الذين يعارضون الولاياتالمتحدة في طريقة تعاملها مع العراق، او في اي مكان في العالم، فمن الواجب قتلهم والتخلص منهم بأي طريقة، ذاك ما ردده مراراً وتكرارا وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد. في الوقت نفسه شرعت الادارة الامريكية في توظيف لغة جاءت مفرداتها من قاموس الاذلال والاهانة لوصف كل من يبدي معارضة لسياسات الولاياتالمتحدة. ومن هذا التعالي وتلك الغطرسة، كانت الرسالة التي وصلت الى الجنود الامريكيين الذين يقاتلون هنا وهناك، مفادها ان القوانين والاعراف الدولية باتت معلقة (او محدودة النطاق) طالما انهم في مهتمهم تلك المسماة تحرير العراق. في هذا المنحى، من الممكن الزعم بأن ادارة بوش قد اوجدت حالة من التأهب، ونزعة للمبادرة، وروحاً عدائية للاعراف التقليدية للسلوك العسكري، وموقفاً محدداً ازاء العراقوافغانستان والارهابيين الاخرين، الامر الذي فتح الباب امام ارتكاب تلك الانتهاكات والمجازر النفسية البشعة. (5) في هذا النص لم يبرئ ويليام فاف الجنود الامريكيين الذين ارتكبوا الجرائم في سجون العراق، ولكنه في تفسير سلوكهم اضاف ان الادارة الامريكية على لائحة الاتهام، باعتبارها شاركت في الجرم من خلال السياسات والانتهاكات التي مارسها. وبما افضت اليه تلك من غرس لبذور العنف واذكاء لروح الاستهانة بحياة الآخرين وبالقوانين والاعراف الدولية. هي شهادة تهمنا في السياق الذي نحن بصدده، من حيث انها تسلط الضوء على منابع الارهاب وليس ممارسته فقط. والعلاقة بين الاثنين في مثل علاقة المحرض والفاعل. ومن اسف ان ادانة العمليات الارهابية في خطابنا الاعلامي تقف عند حدود الفاعلين، لكنها تتجاهل وتغفل دائماً مسئولية المحرضين، الامر الذي لا يعبر فقط عن خلل في الرؤية، وانما يضعنا أيضاً امام مفاجأة لا تخلو من مفارقة، خلاصتها ان الحرب ضد الارهاب اكبر بكثير من الذين يتصدون لها، لان هؤلاء انفسهم هم الذين يروجون لثقافة الارهاب ويغرسون بذوره. والامر كذلك فان الحرب ضد الارهاب لن تنتهي ولن يتحقق فيها النصر المنشود ما لم تقتلع بذوره وتجفف منابعه وتستأصل التربة التي ينمو فيها. وتلك مشكلة اذا عجزنا عن حلها فلا اقل من ان نفهمها.