هذه سطور بمثابة إطلاق صرخة من نوع ما، في واد غير ذي زرع علي الأرجح، حول مصائر ومآلات وآفاق ما يُعرف باسم حركة عدم الانحياز . مضى نصف قرن منذ أن نحت الزعيم الهندي جواهر لال نهرو هذه العبارة العجيبة، وأراد منها ثلاثة أغراض نزيهة مخلصة كما ينبغي للمرء أن يتخيّل: التحرّر من ربقة الاستعمار بمختلف أشكاله، وتخفيف حدّة التوتر الدولي بين القطبين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وتحقيق التنمية الاقتصادية لبلدان العالم الثالث بوصفها كتلة عدم الانحياز الطبيعية. اليوم يبدو اجتماع وزراء خارجية عدم الانحياز وكأنه واقعة شاذة على المشهد العالمي الذي يهيمن عليه طراز واحد من الانحياز، بمعنى المصطلح القديم بين واشنطنوموسكو، بل هو اجتماع فاقد للمعنى أو سوريالي تماماً إذا تذكّرنا أنّ بين أعضاء كتلة عدم الانحياز هذه ثمة الكويت مثلاً، أو... العراق أيضاً! هذه، كما لا يخفى، ذروة الشكلانية الجوفاء في إدارة المؤسسات الدولية ذات الطابع المستقلّ، التي انقلبت إلى ما يشبه الميراث التاريخي الصرف، ولم تلفظ أنفاسها بعد لأسباب تتصل جوهرياً بالنفاق السياسي والديكور التجميلي. ومنذ سنوات شاءت المفارقة، القاسية تماماً ولكن التعليمية المفيدة بالقدر ذاته، أن تنعقد قمّتان في فترة زمنية واحدة: القمّة الأمريكية الروسية، والقمّة ال 12 لدول عدم الانحياز ! كان الفارق صارخاً بالطبع، ولم تكن اعتبارات الجغرافيا والمسافات القارّية الشاسعة هي وحدها التي تفصل بين موسكو ودوربان جنوب أفريقيا. كان ثمة اعتبارات أخرى جوهرية تخصّ الموقع والدور والوظيفة الذي تشغله القمّتان في النظام الراهن للعلاقات الدولية الراهنة. وكان ثمة الكثير الذي يدور حول التاريخ والاقتصاد والسياسة والثقافة والديموغرافيا، أو كلّ ما يُبقي الشمال شمالاً والجنوب جنوباً، باختصار كلاسيكي... مفزع بعض الشيء لأنه على وجه الدقّة لا يزال كلاسيكياً لا يتزحزح قيد انملة. غير أن المفارقة شاءت أن تنعقد القمّتان في زمن متقارب، كأنّ البَوءن الفاغر بين هذَيءن الإنشطارَيءن للكرة الأرضية كان يحتاج إلي مزيد من التشديد، عن طريق حسّ المفارقة بالذات. المثير أكثر أنّ العالم وجد الفرصة للإشفاق المزدوج: على ما آلت إليه قمّة موسكو من نتائج هزيلة، وما أسفرت عنه قمّة دوربان من قرارات أشدّ هزالاً، أو بالأحرى أبعد أثراً وكارثية! ذلك لأنّ الهزال هنا يختلف جوهرياً، ومصائر الاقتصاد الروسي والوليد الليبرالي الذي لا يبدو أنه سيشبّ صحيحاً معافى، لم تكن شبيهة بمصائر مليارات البشر الذين يشغلون حصّة عدم الانحياز من سماء وسطح وباطن هذه المعمورة. وباديء ذي بدء قد يسأل سائل، محقّاً تماماً في الواقع، عمّا إذا كان مصطلح عدم الانحياز يملك اليوم أيّ معنى ملموس. عدم انحياز بين مَنء ومَنء؟ ولصالح مَنء بالضبط (إذء ينبغي أن يكون هنالك ذلك الفريق الثالث الذي يصبّ موقف عدم الانحياز لصالحه)، وأين؟ الخطوة الآمنة الأولى في التعامل مع هذا التساؤل المشروع قد تتمثّل في حصر المصطلح بين مزدوجات، بحيث تكون له مساحة دلالية مفتوحة بعض الشيء، سواء لجهة التأويل أو لجهة الالتباس. إنه مصطلح مثله مثل سواه من المصطلحات التي فقدت الكثير من مخزونها الدلالي هذه الأيام، دون أن تنقرض أو تُسحب تماماً من التداول: يسار ، يمين ، حركة تحرّر ، ثورة ، ثورة مضادة ، الخ... خطوة تالية هي وضع فكرة عدم الانحياز جانباً، ليس لأنّ الفكرة بحدّ ذاتها باتت نافلة مُماتة فحسب، بل أساساً لأن كتلة الدول الأعضاء منحازة شاءت أم أبَت، أو هي منحازة بحكم ما يُناط بها من وظائف ضمن التقاسم الدقيق للأدوار الإجمالية في نظام العلاقات الدولية، والذي يحدث أن يُسمّي أحياناً حوار الشمال والجنوب من باب الكياسة، و حوار الأغنياء والفقراء من باب تسمية الأشياء بمسمّياتها الفعلية. المشكلة الأولي أنها منحازة وهي في دور الضحية التي تدفع أولى أثمان ذلك التقاسم غير العادل للأدوار والمحاصصات والثروات، ومنحازة وهي في دور صنبور طاقة وموادّ خام لا غنى عنها لكي تدور آلة الاقتصاد الدولي، ولكي يعرف الكبار أفضل طرائق استثمار موارد الأرض، وأفضل أَوجُه التنعّم بها. المشكلة الثانية، والأخطر ربما، هي أن الحيلة قد تنطلي علي هذه الضحية فتلعب دور الضحية وهي تظنّ أنها إنما تلعب دور الشريك المشارك في صناعة نظام العلاقات الدولية، أو صناعة التاريخ ليس أقلّ! وعلي سبيل المثال، سوف تكون الحيلة قد انطلت علي دول قمّة عدم الانحياز وبنسبة 100% ربما إذا قرّر الأعضاء أن دورهم في صناعة التاريخ إنما ينحصر في مكافحة الإرهاب الدولي (بالنيابة عن الكبار الذين يستهدفهم ذلك الإرهاب بهذا القدر أو ذاك)، وفي الحدّ من انتشار التكنولوجيا النووية (بالنيابة عن النادي النووي الذي يحتكر الكبار حقّ الانتساب إليه)، وفي فرض الرقابة الذاتية الصارمة على إنتاج أسلحة الدمار الشامل (وهذه، بدورها، ينبغي أن تُحصر بين مزدوجات، لأننا لم نعد نعرف لها معنى دلالياً عادلاً أو ملموساً). ولسوف تنطلي الحيلة أكثر فأكثر بنسبة 200% هذه المرّة إذا قرّرت كتلة عدم الانحياز أن ليس من شأنها تقويض أنظمة داخلية كبري صيغت لصالح الكبار وحدهم، في مؤسسات كبري تنتهي أسماؤها دائماً بصِفة الدولي : مجلس الأمن الدولي، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي... المسألة هنا لا تدور حول تمثيل كتلة عدم الانحياز هذه، بقدر ما تدور حول التمثيل السياسي الفعلي والفاعل لثُلثَي البشرية، الآن بالذات حين تكون الصين الشعبية عضواً غير منتسب في نادي ال G-8، بالمعني الاقتصادي أولاً، ثم بالمعنى الجيو سياسي ثانياً. ولقد رأينا الدور الخجول الذي لعبته الصين الشعبية في خلخلة التوازنات الغربية داخل مجلس الأمن الدولي بصدد استمرار الحصار على العراق مثلاً، ثمّ شنّ الحرب عليه وغزوه عسكرياً. ولكن هل ستكون تلك الخلخلة على الشاكلة ذاتها لو أن الهند أو جنوب أفريقيا أو اندونيسيا أو مصر كانت هي العضو الدائم السادس في ذلك المحفل؟ وأخيراً سوف تنطلي الحيلة بنسبة فاضحة فاقعة هذه المرّة إذا تناست دول قمّة دوربان أن الاقتصاد الدولي معتلّ من الرأس حتى أخمص القدمين، ومن روسيا إلى اليابان إلى النمور الآسيوية سابقاً، قبل الصومال واليمن والإكوادور، وأنّ الكبار هنا تحديداً يريدون من الضحية أن تقدّم المزيد من التضحيات/القرابين. في مستوى آخر من لقاءات أبناء العالم الثالث، قمّة الجنوب أو ال 77 مثلاً، التي انعقدت في العاصمة الكوبية هافانا قبل أربع سنوات، توفّر خطاب آخر أكثر جسارة وأقلّ تأتأة. تلك القمّة حضرها نحو 50 رئيس دولة جنوبية أو عالمثالثية ، وأكثر من 80 منظمة دولية حكومية وغير حكومية، بما في ذلك منظمة الأممالمتحدة وأمينها العام كوفي أنان. وكما في حال قمم عدم الانحياز، كان ثمة ذلك التسليم غير المباشر بأنّ هذه القمّة قادمة من عصور أخرى سحيقة وأخلاقيات طواها الدهر الراهن، حيث تسود العولمة أساساً (وهذه هي الصيغة المهذّبة) وحيث الهيمنة الغربية الأمريكية الأوروبية على مقدّرات العالم السياسية والاقتصادية والتكنولوجية (وهذه هي الصيغة الأقلّ تهذيباً، والأكثر أمانة لواقع الحال). فليكن، إذا صحّ أنّ العين لا تقاوم المخرز. غير أنّ أيّاً من أولئك الزعماء الذين تقاطروا إلى هافانا (والله يعلم أنهم قادمون من كلّ فجّ عميق، بمشارب متضاربة وسياسات متباينة) لم يكن ينوي وضع العين في طريق المخرز، ولا إعلان حملة صليبية (جنوبية عالمثالثية هذه المرّة!) ضد العولمة. ما كان يريده أولئك، ولا يتجاوز المطالبة بالحقّ البسيط، هو بعض المساواة في المحاصصة الدولية لثروات العالم وثمار التسارع التكنولوجي الهائل... بعض المساواة وليس كلّ المساواة! في تلك القمة استمع الجميع إلى ما قاله الرئيس الكوبي فيديل كاسترو... إلى ما يعرفونه حقّ المعرفة، ويصمّ معظمهم الآذان عن سماعه. قال كاسترو: لم يسبق للبشرية أن شهدت مثل هذا الإمكان العلمي والتكنولوجي، وهذه القدرة الفريدة على إنتاج الثروات والرفاه. ولكن لم يسبق أن كانت اللامساواة واللاتكافؤ عليى هذه الدرجة من العمق في العالم . وإذا كانت الأعاجيب التكنولوجية قد قلّصت الكرة الأرضية على مستوى الاتصالات والمسافات، فإنّ هذه الأعاجيب تتعايش اليوم مع الهوّة المتزايدة التي تفصل بين الثروة والفقر، وبين التطوّر والتخلّف . وأمّا العولمة فإنها حقيقة موضوعية تضع أبناء البشرية في مركب واحد، ولكنها لا تساوي بينهم في اعتبارات الغذاء السليم والماء النقيّ والرعاية الصحية واستخدام العلوم، هذه التي تحتكرها نسبة 15% فقط من راكبي المركب الواحد ذاته. وهكذا فإنّ هذا المركب يقوم على قدر من المظالم أكبر بكثير من أن يسمح له بالطواف ومواصلة هذا الدرب اللاعقلاني وصولاً إلى مرفأ آمن . هذه العولمة، التي لا تشيع فلسفة أخري سوى الليبرالية الجديدة في طبعتها الوحشية، لا تعولم التنمية بقدر ما تعولم الفقر، وهي لا تحترم سيادة الأمم بقدر ما تنتهكها يومياً. وليس أدلّ علي اختلال التوازن في علاقات أبناء المركب الواحد من حقيقة أنّ النموّ الدولي بين أعوام 1975 و1998 لا يرقى إلى نصف ما كان عليه بين أعوام 1945 و1975. وثمة، ثانياً، ذلك التسليم بواحد من أشهر بنود غسيل الدماغ الطوعي، أي ذاك الذي يقول إنّ الخطاب الخاصّ بانقسام العالم إلى 85% من الفقراء و15% من الأغنياء هو خطاب فائت وعتيق ومنقرض، وهو ينتهي إلى وضع العين أمام المخرز. ولكن إذا كانت مفردات الخطاب قد انقرضت على مستوى اللغة القابلة للتبدّلات الدلالية والإنقلابات المفهومية، فإنّ المحتوى المادّي لهذا الخطاب لا يزال قائماً وماثلاً للعيان... لكلّ ذي بصيرة وبصر. وكاسترو ذكّر العالم بأنّ إسهام الدول النامية في الصادرات الدولية كان في العام 1998 أقلّ بكثير مما كان عليه في العام 1953، وأنّ البرازيل (بمساحة 3.2 مليون ميل مربع، وعدد سكان يبلغ 168 مليون نسمة، وصادرات بقيمة 51.1 مليار دولار) صدّرت في العام 1998 بضائع أقلّ مما صدّرت هولندا (بمساحة 12.978 ميل مربع، وعدد سكان لا يتجاوز 15.7 مليون، وصادرات بقيمة 198.7 مليار دولار). وفي نهاية الأمر، وما دام تراث فكرة عدم الانحياز ترعرع أساساً في حاضنة الحرب الباردة، ألا تبدو بعض الحلول المقترحة وكأنها ارتداد صريح عن أقدس المباديء الناظمة للرأسمالية ولاقتصاد السوق؟ خذوا مثلاً ذلك الاقتراح الذي يطالب الدول الرأسمالية بفرض تقنين علي حرّية مناقلات العملات بين الدول والأمم والأسواق، على أمل منع المضاربين في البورصات من صياغة أقدار اقتصادات حساسة في اليابان أو روسيا! ما الذي يتبقى من الرأسمالية، إذا حُجِر على البورصة؟ وما الذي يتبقي من معنى في فكرة السوق الذي لا يخضع لغير قوانينه، الذي لا يخضع لقوانين الدول على الأقلّ؟ أليس هذا هو الاقتصاد الموجّه الذي هجاه الجميع واندلعت من أجله ثورات القرنفل في المعسكر الاشتراكي سابقاً؟ أو خذوا، في المقابل، المثال المضادّ الذي قدّمه رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد: لقد أعلنت ماليزيا فرض اجراءات اقتصادية صارمة ولا سابق لها في الواقع تستهدف منع المستثمرين من تحويل موجوداتهم داخل ماليزيا إلى عملات أخرى، على رأسها الدولار الأمريكي بطبيعة الحال. الأسواق تترقّب، والأخصائيون يراقبون وكأنّ على رأسهم الطير: ماذا لو نجحت التجربة بالفعل؟ ماذا يتبقى من رأسمالية ماليزيا؟ وفي الأساس: ماذا في وسعنا أن نفعل إزاء نجاح ماليزي لا يمكن إلا أن يلحق الأذى بترتيبات الكبار؟ واليوم، بعد نصف قرن على إطلاق المصطلح العجيب، إذا لم تستوعب قمم عدم الانحياز مثل هذه الدروس، فإنها ستكون كمَن يجرّ قدميه طائعاً إلى المصيدة، التي ليست في هذه الحالة أقلّ من قفزة في فراغ أعمى، نحو الهاوية!