الحوارات الحديثة أشبه ما تكون بالفيزياء النووية. إذ يدور كثير من الجزيئات في فلكها الخاص، ويمر بعضها أمام بعض في سرعة. ولكن جزيئات أخرى تتصادم، مكونة احتكاكات وشرارات. وحتى إذا لم تنته حواراتنا إلى نتيجة مرضية، فهي على الأقل ستوضح موقف وموقع كل منا من قضية معينة. وكثيرا ما نتكلم جميعا في آن واحد. فلا نسمع بعضنا، ولا نستريح بعد هذا الحوار. والحقيقة أنه ليس حوارا، بل حديثا يوجهه كل لنفسه وليس لغيره. فغيره لم ينصت ولم يسمع. فكأنها رصاصات طائشة في الهواء، لم تصب هدفا ولم تصطد شيئا. في حين يرى ويليام ايزاكس مؤلف كتاب "الحديث وفن التفكير"أن الحوار يمكن أن يخدم أغراضا كثيرة على جميع المستويات المؤسسية والسياسية والشخصية. فهو ليس نتاج تفكير، بل هو أحد إجراءات التفكير الجماعي، الذي كثيرا ما يؤتي نتائج رائعة. على عكس التفكير الفردي، ثم المحاولات المضنية لإقناع الآخرين بما توصلت إليه.. وحدك. عيب التفكير الفردي أيضا انه لا يمنحك عادة الإنصات للآخرين والتفكير في آرائهم المختلفة عن آرائك. وهو ما يؤدي في النهاية إلى نتائج سلبية للحوار. لكل ذلك يقدم ايزاكس أفكارا بناءة لجعل الحوار أحد أساليب التجدد الفكري. والحوار عنده مكون من شقين: الحديث والاستماع. فأنت لا تحاور فقط عندما تتحدث وتدلي برأيك. ولكن الشق المهم هو الإنصات لغيرك وتمرير كلامه على ذهنك لتكوين فكرة أو رد أو استجابة ما على هذا الحديث. وعلى ذلك فالحوار أيضا به درجات مختلفة من الجودة، حسب مدى إنصات الطرفين لبعضهما واحترامهما لما يقوله الآخر. ولا يعني الاحترام هنا موافقته على كل ما يقول. بل يكون احترام الطرف الآخر بالإنصات له إلى النهاية وعدم تسفيه آرائه، وعدم التحفز للرد عليه. فنحن كثيرا ما نستمع ولا ننصت، لأننا نفكر أثناء حديث الطرف الآخر في كيفية الرد عليه وبماذا. أي أننا نكون منشغلين بما سنقول، وليس بالاستماع لما يقال لنا. وفي هذا النوع من الحديث هناك دائما فائز وخاسر. أما الحوار الحقيقي فالكل فيه فائز، لأنه ليس مجالا للمنافسة. بل لتبادل المعلومات والآراء. وهذا هو الحوار البناء، خاصة على مستوى المؤسسات. فالنتائج والقرارات الناتجة عن هذا النوع من الحوار تكون دائما صحيحة، لأنها وضعت في اعتبارها كل الخيارات، وتفقدت كل الآراء المختلفة، وقلبت الأمر على كل وجوهه. ويضرب المؤلف أمثلة عديدة من الواقع لحوارات ومحادثات ناجحة على جميع المستويات. فعلى المستوى السياسي مثلا يضرب مثلا بمحادثات مانديلا ودي كليرك التي أدت إلى تحرر جنوب أفريقيا من العنصرية. كما يقدم أمثلة لتأثير الحوار الإيجابي البناء على قرارات المؤسسات والحياة العائلية والأصدقاء والحياة الفكرية والثقافية ..الخ. ولأيزاكس باع طويل في هذا الموضوع. فهو أحد مؤسسي مركز تعليم المؤسسات بمعهد ماساشيوستس للتكنولوجيا. كما يدير مشروع "الحوار" بنفس المعهد. وتمثل نتائج هذا المشروع الركيزة التي يقوم عليها هذا الكتاب. ويؤكد ايزاكس أن المشروعين مرتبطان بصلة وثيقة. فلا يوجد تعليم مؤسسي بدون حوار ناجح. بل إن الحوار الناجح من أسسه التي لا قائمة له بدونها. وتنطبق على الحوار بشكل خاص مقولة أن " نتائجه الجماعية افضل وأكثر بكثير من مجموع نتاج تفكير كل فرد منها وحده". فهو يتخطى نقاط ضعف تفكير كل فرد، ويصلحها. لذلك يشرح ايزاكس ما يشجع على الحوار الصريح المفيد وما يعيقه، خاصة في حديث الأطراف المختلفة. كما يؤكد أن بعض البيئات المحيطة بالمجلس تشجع على الحوار الإيجابي الهادئ، في حين تشجع بعض البيئات على حوار متشنج عدواني. ولكن الحوار ليس بيئة خارجية فقط، بل هو تهيئة نفسية أيضا. فإذا لم تتوافر فيك سمات المستمع والمحاور والمحدث الجيد، فيجب أن تتعلمها. فلا يوجد شخص ولد ليكون مستمعا جيدا. لكن يوجد الشخص الذي يحترم الآخرين، ويمنحهم فرصة عرض آرائهم لاقتناعه بأن ذلك هو السبيل الوحيد لفهمهم والتعرف عليهم عن حق وقرب. يؤكد المؤلف في نهاية الكتاب أن اجتماع أشخاص بدون حوار بناء يشبه محاولة عبور نهر بدون جسر. أي أنك لن تحقق أي نوع من التقدم أو الوصول لهدفك بدونه. Dialogue and the Art of Thinking Together: A Pioneering Approach to Communicating in Business and in Life By: William Isaacs 448 pp. - Doubleday